د. خيرية السقاف
كنت يدهشني جمال خط أبي حين يخط كلماته، وإن جاءت في رسم اسمه، أو اسمي!..
وأفعل وأنا أرقب عمي الأصغر حين أطلب إليه أن يمنحني شيئاً من صيغ الدعاء التي يرددها، فألتصق جواره وهو يكتب لي بخط جميل يذهلني انسيابه، والتواءاته، ومده، ومعقوفاته، ولا أتردد في الاستمتاع بخطوط أفراد أسرتي الذين تلقوا تعليمهم في مدارس»الفلاح»، و»عمر عبدالجبار» بمكة المكرمة، فأشهد لهم بمتعتي في قراءة خطوطهم، والمباهاة بحصيلتي من دعاء، أو نصيحة،..
كان أبي يقول لي إن مادة «الخط العربي» هي واحدة في أعمدة التعليم في جيلهم، وما بعد جيلهم، حتى لحقنا من ذلك «حصة» خط في الأسبوع، غير أن معلماتنا لم يكنَّ ماهرات مهارة من سبق، الذين كانوا يُطلقون على درس الخط صفة «الفذلكة»، ولعلها تعني المداخل لكل جميل يُتذوَّق، ولكل لافت محرض للعين، فالإحساس بالجمال...
لكن «الخط العربي» له أناسه ومختصوه، ومعاهده، وثقاته، على سبيل المثال القريب خطاطو المصحف الشريف، وكسوة الكعبة المشرَّفة فهم ثقاة، رواد، خُلَص لهذا العلم..
ويبقى للخط العربي مكانته السامقة، ومكانه في الدرس، والدربة، والتمثيل فهو مع اللغة التي يقدمها في شكله كلمات ذات مضامين هوية عربية لا يُفرط فيها، ومع أن معاهد الخط العربي، وأساطينه لا تزال هممهم وثابة، وجهودهم قائمة مع انحسار العناية بالخط العربي بين ناطقي العربية جميعهم، لكن يبقى له مختصون هم الساهرون حراساً عليه قيمة، وأمناء عليه قامة، ورعاة له مكانة، وأسوة في هذا بيننا خطاط المصحف الشريف السيد عثمان طه، وخطاط كسوة الكعبة المشرفة السيد عالم مختار، والسيد عبدالرزاق خوجة خطاط العملة السعودية، والخطاط الأستاذ ناصر المأمون، والسيد الخطاط إبراهيم علي العرافي، والأستاذ الخطاط سعود خان، والفنانة التشكيلية المحبة للخط العربي السيدة زهور جميل مختار..
هؤلاء فينا خير مثال، إلى غيرهم من الخطاطين في الدول العربية، بل في دول شرق آسيا ممن يشاركون في معارض الفن بخطوطهم العربية متقنين أنواعها، ورسم أشكالها بفنية، واحتراف فيما نجد أن المدارس في مؤسسات التعليم قد تخلت عن تعليم فنون الخط العربي، وتجاهلت العناية الواجبة به، فلا يحظى فيها بقيمته مُدرجاً ضمن مقرراتها الإلزامية، وأصبح فناً للهواة، في مسار طال أمده، فكيف بهذا الوقت الذي تخلى الناس فيه عن أقلامهم، وجهلت معارفهم فنونه، وغدوا أميين في علوم، وفنون خطهم العربي؟!..
أخيراً أعلن وزير الثقافة النابه الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان تسمية عام 2020 «عام الخط العربي»، حيث ورد عنه أن الدافع لهذا القرار هو «احتفاءً بالخط العربي وتقديراً لما يمثِّله من أهمية في التعبير عن مخزون اللغة العربية وما يمتلكه من تاريخ وجماليات في هندسته وأشكاله»..
ومع أنها لفتة جادة، وبالغة الأهمية فإنها تنم عن وعي يومض بمؤشراته في دور وزارة الثقافة، ونأمل ألا يكون التقدير للخط العربي مجرد احتفاء يماثل هذه الاحتفاءات القولية الشكلية التي تتردد كما قلتُ سابقاً عن وسوم أعوام، وأيام للمرأة، للسلام، للأم، للغة.. وما درج نحوها، فيها يحتفي الناس بكلمة، وأخرى ثم ما تلبث أن تنطفئ بغاياتها..
نود عملاً جاداً مستديماً راسخاً يفرض على مؤسسة التعليم إدراج «الخط العربي» بفنونه مستقلة في مقررات ذات صفة اعتبارية، وقيَمية خطة، ومضموناً، وتعليماً، واكتساباً. وتقويماً، وألا يُسمح بأن يمضي الخبر، أو العام، وتطوى معه كل ذكرى للخط العربي، وكذلك للغة العربية، حين نأمل من الوزير النابه أن يفرضها لسان التعبير في محافل الثقافة لا غيرها!
شكرًا بدر بن عبدالله، شكرًا لاستشرافات في الثقافة نتطلع إلى قِواماتها وأوتادها.