د.محمد بن عبدالرحمن البشر
محاكم التفتيش المشهورة التي تحدثت عنها المخطوطات وسطرت أفعالها الكتب، وصيغت من خلالها الكثير من الروايات، وأنتجت حولها الأفلام، كانت حقيقة لا مراء فيها وواقع تاريخي مؤسف ومؤلم في مسيرة الإنسان عبر العصور، كانت تجسيداً للتعصب الذي ما زال يحمله الإنسان في عقله، ويطبقه على أرض الواقع، فما زلنا نرى تعصباً دينياً يؤدي بأرواح الكثير من الناس، من خلال تبني مجموعات إرهابية منهجاً يحملهم على التضحية بدماء الآخرين ودمائهم على أساس من النظرة الضيقة، والهوس المنفلت، وهذا ليس خاصا بمعتقد بعينه، أو منطقة وإنما هو واقع موجود في جميع القارات، وموجه ضد كافة المواطنين في العالم، ومنفذ من أصحاب أفكار شتى.
والتعصب المدمر الذي يقف العالم بأسره ضده، ليس هو التعصب الوحيد المتعلق بالأديان، فهناك التعصب القبلي، والمناطقي، المتعلق بالأصل، كما كان سائدا في عقول المتبنين لتميز العرق الأزرق النبيل، وحتى الأسري، والتمييز في اللون والجنس.
هناك التعصب الناعم، مثل التعصب للمذاهب، أو الآراء، أو حتى فريق كرة قدم، ومثل هذا التعصب الناعم يؤثر مع الوقت على المجتمع، ليؤثر في تجانسه، ويضعف من نسيجه فيصبح كالعهن المنفوش، أو كخيط العنكبوت فيسهل النيل منه من قبل المغرضين في الداخل أو الخارج.
المسلمون في الأندلس واليهود عاشوا فترة ازدهار وحرية وعلوم وتقدم، كما عاشوا مآسي وآلام وأحزان يندى لها الجبين، وهذه سنة الحياة، فاليهود عُذب منهم من عذب، وقُتل من قتل، وأجبر البعض على التنصر وهجر الكثير، وذهب أغلبهم إلى بلاد المغرب العربي، وبعضاً منهم إلى تركيا، وبعض الدول التي كانت تحت سيطرتها، والتمسوا العيش في الحواضر كعادتهم.
المسلمون أصابهم ما أصاب اليهود، إلاَّ أن كثرتهم جعلت بعضاً منهم يعيش في الأندلس، لكن بعد السقوط بعقدين من الزمن، أجبروا على التنصر، أو أغروا بذلك من خلال المواعظ والمال، واستمر البعض وذهب جيل وجاءت أجيال، لكن من بقي وتنصر لم يكن مرحب به من قبل الحكم الجديد، ولم يروا أنهم نصارى صادقين وإنما يحملون في قلوبهم دينهم الإسلامي، وكانت المراقبة شديدة في المأكل والمشرب والملبس والطرب، والرقص، كما هي رقصة الزمرة المشهورة.
محاكم التفتيش في الأندلس أخذت على عاتقها طرح القوانين، وتتبع من لا يعتنق بصدق المذهب الكاثوليكي سواء كان بروتستانت أو يهود أو مسلمين، أو علماء لهم أفكار جديدة متهمينهم بالهرطقة أو الزندقة.
ظهرت بعض المقاومات المحدودة لهذا النهج غير الإنساني، وشارك فيها رجالاً ونساء، ومن الأمثلة النسائية على المقاومة، سليمة بن جعفر حفيدة أبي جعفر الوراق الغرناطي، وقد قادها حظها العاثر أن تعيش منذ طفولتها في ظل نشاط محاكم التفتيش، وورثت عن جدها مكتبة ضخمة، ولم تكن تحمل أسفاراً على ظهرها بل حملت في عقلها علماً غزيراً، وفكراً نيراً، وقوة وثقة، فبرزت في علوم شتى، وأهمها الطب، وجعلت من غرفتها معملاً لإنتاج الدواء، وتطبيب الناس، وكان هذا يكفي لاتهامها بالسحر لقدرتها العجيبة على صنع الدواء باستخدام الكيمياء، ووجهت محكمة التفتيش إليها هذه التهمة المشينة، وقالوا إنها أيضاً قد حملت بمولود من خلال معاشرة الشيطان لها، فزوجها كان هارباً فكيف لها أن تحمل من رجل هارب، لكن الحقيقة التي أخفتها عن محاكم التفتيش وعن الناس، أن زوجها كان يزورها خفية فقد كان مقاوماً معروفاً، فحملت منه أثناء تردده على المنزل، وأنجبت ابنها وابنته عائشة، ولم ترد أن تفشي سره، وكانت تقول لمحكمة التفتيش إنهما منفصلان وأنه عاد إلى منزله مرة واحدة، وعاد من حيث أتى، وأنها لا تعلم من أين أتى، وإلى أين ذهب، ومتى غادر المنزل، ووجهت لها تهمة أخرى، وهي تهمة الطيران ليلاً، فكان سائداً أن السحرة والساحرات يمكنهم الطيران، وهذا الاعتقاد كان سائداً لدينا، وكنت أسمعه كثيراً في صباي، لاسيما من بلدة بعينها، وقد أتيح لي زيارتها فيما بعد، ولم يكن هناك شيئاً مما ذكر، إطلاقاً.
ومن المضحك أن سبب اتهامها بالطيران أنهم قد ذكروا لها أنه قد ذكر في القرآن أن محمداً رسول الله قد أسري به ليلاً، كما أنه قد عرج به إلى السماء، وقد أقرت أن ذلك موجود في القرآن، لهذا فقد أتهموها بالطيران.
لقد قررت محكمة التفتيش بعد أن وجهت إليها هذه التهم، بأن جزاء ما اقترفت من معاشرة الشيطان، والسحر، والطيران في الليل أن تحرق على الخازوق، وفي نفس المكان الذي أحرقت فيه كتب جدها، وقد واجهت وهي في السجن أنواع التعذيب والتنكيل، لإجبارها على الاعتراف، بأمور لم تفعلها، ولا يستوعبها العقل، ولا تتماشى مع نواميس الحياة.
لقد أُحرقت بعد أن سارت في كبرياء وثبات إلى مكان الحرق، ولم تظهر أي ضعف، وذهبت في سبيلها.