د.عقل عبدالعزيز العقل
كثيرًا ما تنصرف أذهاننا عندما نسمع أو نقرأ عن كلمة (الفساد) إلى الشخص المرتشي، أو إلى الذي يستغل منصبه لمصلحته الشخصية، ويمتد ضرره إلى شتى نواحي الحياة. وهذا المفهوم لا يعد مفهومًا شاملاً.
فهناك فساد متفشٍّ، ولا يكاد يسلم منه أحد، وهو أداء الأمانة الوظيفية التي يتقاضى عليها المسؤول مكافأة شهرية، سواء كانت من القطاع الخاص أو القطاع الحكومي. وهو داخل في جملة التطفيف المتوعد عليه بقوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ}. فالأستاذ الذي يحذِّر من الفساد المالي والإداري إلا أنه يستحل لنفسه عدم التحضير لدرسه تحضيرًا جيدًا، أو لا يقيّم عملية تدريسه، ويقيس نواتج تعليمه، ويحقق أهدافه في كل درس، مع قدرته على ذلك، يكون أحد المطففين في الكيل والميزان.
ربما كان المعلم في بداية مشواره التعليمي شعلة نشاط، ونبراس هداية، ونورًا لطلابه.. إلا أنه مع طول العهد في التدريس قد يضمر ويتكاسل، ويؤثر الدعة، ويعطي القليل بحجة أن الجميع كذلك، وأن الجميع يستوون في المكافأة وضَعْف التحفيز.
وكذلك الأستاذ الجامعي يدرك جيدًا أن الطالب بأمسّ الحاجة لتطبيق استراتيجيات التدريس الحديثة كافة، وبذل كامل الجهد في تخريج طالب، يمتلك العديد من المهارات والمهام التي تؤهله ليكون مواطنًا صالحًا معطاء، لديه الأدوات اللازمة لإتقان تخصصه، كالفكر الناقد، والقدرة على التمييز بين الحقائق، والانطباعات الشخصية، والحصول على المهارات البحثية التي من خلالها يكتشف المعلومات، ويوظفها التوظيف الصحيح، ومع هذا الإدراك الجيد للأستاذ الجامعي إلا أنه يكتفي بالحد الأقل من مهامه التدريسية وساعاته المكتبية.
أحد المعلمين في المرحلة الثانوية لاحظ أن أحد طلابه متأخر عن بقية زملائه في تحصيله الدراسي، وكثيرًا ما يتردد على مكتب وكيل المدرسة ومرشدها حتى أصبح الجميع ينظر إلى هذا الطالب نظرة احتقار وازدراء، وأنه يحمل عدوى الجليس السيئ! يقول هذا الأستاذ: حاولتُ أن أحتويه، وأن أشخّص وأدرس حالته، وبعد جلسات كثيرة اكتشفت السر! وهو أن الطالب يفتقد الأمان النفسي؛ فهو ضحية لأسرة متفرقة، وقع فيها الطلاق، وأصبح مشتتًا؛ إذ يسكن عند والده وزوجة والده في غرفة منعزلة في فناء المنزل (الملحق)، ولا يُسمح له بأن يتجاوز ذلك! ويُرمى له الطعام رميًا، إلا أنه كان يحظى بأخ مقارب له في السن، يعطف عليه، ويزوره، ويُدخل عليه السرور، ولم يلبث هذا الأخ الوفي فترة طويلة مع هذا الشريد؛ إذ توفي في حادث؛ وأصبح الطالب يعيش في قلق دائم، ويفتقر إلى الحنان والعطف والمأكل والمشرب والملبس؛ وهو ما جعل المعلم يقوم بواجبه كاملاً نحو الطالب؛ فقد زار عائلته، واستطاع بحنكة أن يعالج الموقف ما بين المنزل والمدرسة. وقبل هذا الدور الإيجابي من المعلم كان الطالب يعاني غربة حقيقية في مدرسته وفي منزله؛ فهو الشخص المذبذب المنفي.
إن رسالة المعلم أكبر من أن تُحصر داخل القاعة التدريسية وسرد المعلومات، بل هو الأب الحاني، والمعلم القدوة، والمربي الصبور الذي يمتلك حسًّا مرهفًا، وملاحظة دقيقة لتلاميذه، ولا يبخل بأي معلومة تفيدهم، ولا ينتقص من حقوقهم شيئًا، حتى الدقيقة الواحدة المدونة عليه في لائحة التعليم يكملها، أو يعوضها؛ كي لا يدخل في دائرة المطففين، وقبل أن يدخل لمحاضرته أو حصة درسه يقسمها ويستوعبها أهدافًا وتقويمًا، ولا يتغيب أو يتأخر عنها بحال إلا في ظرف قاهر، ويسعى دومًا لتطوير نفسه، واطلاعه على تخصصه، وتحديث ما يحتاج إلى تحديث في مجاله التعليمي والوظيفي.
لقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الرجل الذي غل شراك نعل - أي سرق خيط نعل من المال العام - سيُربط في قدمه يوم القيامة، ويشتعل عليه نارًا، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟! شراك نعل فيه هذا الوعيد الشديد رغم بساطته، وكونه من الأمور التي لا يؤبه لها عادة! فما بالنا بوديعة الطلاب والطالبات؟! إنها بحق أمانة عظمى؛ سنُسأل عنها.