د. حمزة السالم
الشعب تَجمع لأعراق التفت حول عصبة دينية أو عصبة قومية كلغة أو لون أو أرض. ولو تأمّلنا في الأحداث الحياتية الرئيسة التي مر بها ذلك العرق أو ذلك الشعب، عبر تاريخهم، فقد يتبين لنا بعض من المسببات للأحداث والعلاقات بينها، فتعين على فهم شيء من سنن الله الكونية، التي يجري الكون بمقتضاها ولا يحيد عنها إلا هالك. فما أعز الله قوماً إلا بهدايتهم لسننه الكونية، وما أذل آخرين إلا لمعاندتهم لها.
فالأسباب وإن كانت في أصلها قدرية محضة، إلا أنها أحياناً تكون بتسبيب الأمة ككل لها، وأحياناً تكون بسبب قائد منها، أو بسبب فرد أو أفراد. فالتأمل في تميز بعض الشعوب أو الأعراق ليس ترفاً فكرياً، بل هو وسيلة عظيمة لبناء الأمم القوية، ودواء ناجعاً لعلاج أمراض الأمة الضعيفة، وإجراء وقائي لمنع ظهور توجه عام سياسي أو اجتماعي، أو توجه فردي، قد يكون سبباً في توجيه الأمة وجهة مدمرة، وقد يكون التوجه إيجابياً فيعامل بمعكوس المنع.
وأعتقد أن الحضارة الأمريكية منذ نشأتها، تعتمد جدياً هذه الفكرة تنظيراً علمياً وتطبيقاً عملياً، في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية. ويكفي شاهداً على ذلك أن الرئيس الأمريكي الثالث توماس جفرسون، أمر بشراء نسخة من القرآن، وذلك قبل كتابة وثيقة الاستقلال الأمريكية بإحدى عشر عاماً، أي في عام 1765م فدرسه بعناية وكانت له بخطه تعليقات وإشارات واستنباطات، وقد أتت المؤلفة الأمريكية، على كثير من مظاهر تبجيل توماس للقرآن، حتى ذكرت أن بعضهم شكك في إسلامه.
فالقرآن كان أحد المراجع الرئيسية لجفرسون في بناء فكره، الذي كتب به وثيقة الاستقلال الأمريكية. لكن ما كان جفرسون مسلماً، ولكنه كان متأملاً في تميزات الأعراق والشعوب بعضها عن بعض، ليستنبط من سنن الله الكونية ما يعينه على كتابة وثيقة خالدة تكون دستوراً لأمريكا. وشاهد هذا، عدم مجيء تحرير العبيد فيها مثلاً، لعدم وجود أصل فكرة عدم الرق ومنعه، في أي حضارة خلت قبل جفرسون.
وثيقة الاستقلال وثيقة عظيمة. فقد بررت أسباب رفض الاستعمار البريطاني، فكان فيها إعلان الحرب على بريطانيا. وحددت العصبة التي تجمع الأمريكان تحت رايتها. فكانت وثيقة بيعة قُدم فيها الدم، مقابل ما نصته الوثيقة من حقوق العدالة والمساواة وضمانات الحريات والملكيات وحرية الديانة وحرية التعبير والتفكير. فهي وثيقة تعتبر أصل قواعد فكر الحضارة الأمريكية اليوم ودستورها، والتي نرى هيمنتها اليوم على العالم.
وأعتقد، أن نجاح الحضارة الأمريكية النسبي، مقارنة بالحضارات والإمبراطوريات التي سبقتها، إنما جاء نتاج حرصها لموافقة سنن الله الكونية، والتي استنبطها جفرسون عن طريق دراسة الاختلافات التي مايزت بين الشعوب والأعراق.
واليوم فاستنباط سنن الله الكونية هو محور جميع العلوم الحديثة، سواء أكانت إنسانية كالاقتصاد والسياسة والقانون أو كانت تطبيقية كالطب والهندسة بشتى أنواعها.