د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** جاء مصطلح «الوهم الضروري» الذي سكّه «نوم تشومسكي - 1928م» في كتابه الصادر عام 1989م بالاسم نفسه: Necessary Illusions؛ ليمثل لغة المخاتلة التي تنتهجها الحكومات الغربية موظفة أذرعَها الإعلامية والسلطوية لتثبيت اللبس الذهني حول ما تريد الإيهام به في مشروعاتها السياسية والاقتصادية، وللعبث بمفاهيم العدالة والحرية والمساواة التي تتصدر المشروع الديمقراطي، ويتكامل كتابه هذا مع مؤلفاتٍ له اعتنت بتأثير الإعلام وتوجيه وسائطه.
** ولعل هذا الوهم الضروري مخرجٌ نفسي من دوائر اليأس الجمعي العربي المسيطرة على الوعي العام في أزمنة التردي الثقافي والأزمات السياسية والاقتصادية. وفي أبرز أمثلة هذا الوهم شعار «الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة»، ونشيد فخري البارودي: «بلاد العُرْب أوطاني..»، وقصيدة علي محمود طه: «أخي جاوز الظالمون المدى..»، وتجاذباتُ العروبيين والإسلامويين: «أمجاد يا عرب أمجاد» و»أخي في العقيدة والدين لا في الماء والطين»، وآلافُ التنظيرات ومئات المؤلفات التي اقتاتت عليها أجيال عاشت في وهمٍ لم تختره، ولم تُستشرْ فيه، لكنها آمنت به، ودافعت عنه؛ فآثرته مشاعل، وأثرت منه مشاعر.
** لا يخرج من هذا الوهم «الإجباري» إلا قلةٌ يلذُّ لها التفكير النائي عن استمراء الحلم الجانح أو التحليق في فضاءات المستحيل. وهؤلاء يتصالحون مع أزمنتهم والظروف المحيطة بهم، ويقرؤون واقعهم ووقائعهم بعينين تعِيان المتغيرات دون أن يدفعها قسوة ما تراه لإنكار ما لا تراه.
** قد نرى وحدة الأمة وهمًا إجباريًّا فنتجاوزه من غير أن نكفرَ بمبدئيته، بل حتميته في زمن قد لا يشهده كهول اليوم، ولا حتى صبيته. وربما أضلّتنا ممارسات غير سوية من بعض الأشقياء حول قضية فلسطين مثلاً؛ فعزفنا حتى عن احتمال العيش مع الوهم الجميل في التحرير والتحرر.
** سبق «سيغموند فرويد 1856- 1939م» فكتب عن صناعة الوهم، ورأى كثيرون في وهم الحب مجالاً للبحث في المتخيل العشقي المهم لاستمرار نبض الحياة الهائمة التي أوجدت نصوصًا وشخوصًا، تجلت في مدارات الشعر والقصة والرواية. ولا جدل أن «قيس بن الملوح» سعد بوهمه الجميل فأسعد المتيّمين، وصارت قصص العذريين ملهمة موهمة.
** الحياة نفسُها وهمٌ وضيء؛ فمبتدؤها عناء، وخاتمتها اختفاء، وبالرغم من عبثية يقينها فإنها قد تصرف عاشقيها عن الثابت والثوابت. والأنسُ بالوهم الضروري دافع إشراق، ولو استسلمنا لسرابيته لعشنا في المقابر.
** قديمًا قال «المتنبي» إن ذا العقل يشقى به، وأخا الشقاوة ينعم بها. والظن أنه سبق سواه في التأطير لصناعة الوهم اللذيذ. أولسنا نعي أن معظم ما نسمعه ونقرؤه ونردده ونتناقله مجموعةُ أوهام:
منىً إن تكن حقًا تكن أجملَ المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا
أمانيَّ من سعدى حسانًا كأنما
سقتنا بها سعدى على ظمأٍ بردا
كما افترض شاعر لم يُجمع الرواةُ على اسمه؛ فلعله من الوهم كذلك.
** الوهم خبرٌ فخدَر.