د. محمد بن يحيى الفال
لعل المفارقة الأولى فيما يتعلق في الإجراءات التي شهدتها المناقشات في كل من لجنتي الاستخبارات والقضائية التابعتين لمجلس النواب الأمريكي الهادفة لعزل الرئيس دونالد ترامب من منصبه تكمن في أن مكنونها الأساس وما استندت إليه في جوهرها هو مكالمة هاتفية أجريت بتاريخ 25 يوليو من هذا العام بين الرئيس ترامب وبين الممثل الكوميدي الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الذي انتخب بطريقة ديموقراطية كرئيس لبلاده أوكرانيا، واعداً مواطنيه بالقضاء على الفساد الذي نخر أركان كافة مكونات الدولة الأوكرانية. مكالمة الرئيس الأوكراني المنتخب حديثاً مع الرئيس ترامب والذي كان قبل انتخابه يعمل كممثل كوميدي لم يكن فيها للرئيس ترامب والجمهوريين من حزبه من الكوميديا شيء سوى كوميديا سوداء وجد فيها الديموقراطيون ضالتهم التي بحثوا عنها وبشتى السبل ومنذ اليوم الأول لتنصيبه وكما يدعي الجمهوريون لعزل الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية دونالد جون ترامب.
مكالمة الخامس والعشرون من يوليو بين كل من الرئيس الأمريكي ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي والتي جعلها الديموقراطيون كمحرك محوري في مبرراتهم لعزل الرئيس من منصبه والتي جاء فيها ومن خلال تفريغ لمحتواها كتابياً من قبل البيت الأبيض وجعله متاحاً للرأي العام الأمريكي بأن الرئيس ترامب طلب من الرئيس زيلينسكي أن يقدم خدمة وهو الأمر الذي فسره الديموقراطيون بأنه ينطوي على تجاوز خطير من الرئيس لصلاحيته الدستورية حيث وضع مصلحته الشخصية الهادفة لإعادة انتخابه فوق مصلحة وأمن الأمة الأمريكية التي انتخبته. الخلل الذي يدعيه الديموقراطيون هو ما قصده الرئيس ترامب بالخدمة التي طلبها من الرئيس زيلينسكي والذي استوجب منهم الشروع قدما في إجراءات عزله مكمنه بأن الرئيس ترامب حجب مساعدة عسكرية بمئات الملايين من الدولارات عن الأوكرانيين والذين كانوا في حاجة ماسة لها للدفاع عن بلادهم مع تطورات الصراع القائم بينهم وبين روسيا الاتحادية، ومشترطاً بأنه سيتم الأفراج عن هذه المساعدات حال أن يقوم الرئيس الأوكراني زيلينسكي بإعلان البدء في تحقيقات مع هنتر بايدن ابن جو بايدن الذي عمل نائباً للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما والذي دخل قائمة الترشيح عن الحزب الديموقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر عقدها في شهر نوفمبر المقبل 2020 . عليه فمفهوم الديموقراطيين عما تضمنته مكالمة الخامس والعشرين من يوليو هو شرط الرئيس ترامب بتقديم المساعدات الأمريكية لأوكرانيا بشروعها أو على الأقل بإعلان رئيسها البدء في التحقيق مع ابن جو بايدن المنافس المحتمل، مقايضاً مصلحة أمريكا مقابل شيء آخر يصب في مصلحته «Quid pro quo» واضعاً الأمن القومي الأمريكي في خطر فادح فيما يتعلق بتجاوزه لصلاحيته الدستورية وهو الأمر الذي فطن له الآباء المؤسسون للجمهورية الأمريكية وكاتبو دستورها بجعلهم إجراء المسائلة ومن ثم العزل هو الأداة الفاعلة لمثل هذا التجاوز بكون الرئيس يتمتع بحصانة ضد أي إجراء قانوني من خلال النظام القضائي المتعارف عليه. الجمهوريون في كل من لجنتي الاستخبارات والقضائية لهم تفسير وسرد آخر مغاير لما احتوته مكالمة الخامس والعشرين من يوليو التي تعتبر مربط الفرس التي يستند عليها الديموقراطيون في السعي لعزل الرئيس ترامب والتي جرت بينه وبين الرئيس زيلينسكي، مصرين ومؤكدين بأن الرئيس ترامب استخدم في حديثه مع الرئيس زيلينسكي عنما طلب منه خدمة الضمير «لنا» قاصداً أمريكا وليس الضمير «لي» قاصداً ترامب بقوله «هل ممكن أن تقدم لنا خدمة؟» وبأن الخدمة التي طلبها الرئيس ترامب من الرئيس زيلينسكي تتعلق بتشديد القوانين الأوكرانية لمحاربة الفساد وباشتراط تقديم المساعدات العسكرية الأمريكية نحو ما يتم من تقدم في هذا المسار ومن ذلك فيما يتعلق بشركة الغاز الأوكرانية بوريسما»Burisma» والتي يشغل هنتر بايدن ابن جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي السابق مقعداً في مجلس إدارتها براتب شهري قدره 50 ألف دولار والتي يظهر ومن خلال التسجيلات التي عرضها الجمهوريون خلال مناقشات اللجنة القضائية نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن وهو في منصبه وقتها يهدد بوقف تسليم المساعدات لأوكرانيا مالم يتم عزل النائب العام الأوكراني السابق خلال ست ساعات وهو الأمر حدث فعلاً وتفاخر به جو بادين على الملأ وفي تسجيل مصور ناعتاً المدعي العام الأوكراني المعزول بوصف مُهين.
لم يكن اختلاف الديموقراطيين والجمهوريين من أعضاء لجنتي الاستخبارات والقضائية وصراعهم منحصر فقط على تفسيراتهم لفحوى مكالمة الخامس والعشرين من يوليو بين الرئيسين ترامب وزيليسكي، بل كان اختلافهم كذلك على كل الإجراءات التي استخدمت خلال جلسات استماع لجنة الاستخبارات برئاسة الديموقراطي من ولاية كاليفورنيا آدم شيف التي يصرح الجمهوريون بأنه هو الشخص من وراء تحريك مجلس النواب للبدء في ترتيبات عزل الرئيس ترامب من خلال رفضه القاطع للكشف عن شخصية من بلغ عن التجاوزات في قضية المساعدات العسكرية لأوكرانيا «Whistleblower» والتي حركت القضية بسرعة فائقة لتصل لمحتوى مكالمة الخامس والعشرين من يوليو ومن ثم الاستماع للسبعة عشر شاهداً في القضية ومنهم السفيرة الأمريكية لدى أوكرانيا ماري يوفانوفيتش والتي أقصيت من منصبها لأسباب يؤكد الديموقراطيون بأن أهمها كونها رافضة لمبدأ المقايضة التي سعى لها الرئيس بينما يرى الجمهوريون بأن إعفاءها من منصبها هو حق اعتباري يكفله الدستور للرئيس بدون إبداء أي أسباب. من تابع الجلسات الدقيقة لاستجوابات استنطاق شاهدي كل من الحزبيين المحاميين السيد/ ستيف كاستور عن الحزب الجمهوري والسيد/ دانيال غولدمان عن الحزب الديموقراطي في جلسات اللجنة القضائية «Cross Examination» وكيف بالكاد استطاع رئيس اللجنة القضائية بمجلس النواب النائب الديموقراطي من ولاية نيويورك جيري نادلر السيطرة على مجريات جلسات الاستنطاق والتي بدأت بصراخ أحد المحتجين على عقد الجلسات وبأنها مُسيسة وغير قانونية وتهدف لعزل رئيس منتخب بغير وجه حق أو مبررات مقبولة. المفاهيم القانونية لم تسلم هي أيضاً من اختلافات جوهرية في تعريفها من قبل الطرفين الديموقراطيين والجمهوريين وذلك بكون كلا الطرفين له فهمه المختلف عن الآخر أو على أقل تقدير تفسيره لما قصد به المشرعين من الآباء المؤسسين عند صياغتهم للدستور فيما يتعلق بعزل الرئيس بسبب اقترافه لجرائم أو جنح كبرى «High crimes and misdemeanors»، ولكنهم تركوا تعريف النصوص الدقيقة للمشرعين في الكونغرس وهو الأمر الذي اتضح الخلاف عليه جلياً بين الديموقراطيين والجمهوريين من خلال نقاشات اللجنة القضائية والذي استدعى بأن يستعين كل من الطرفين بمختصين قانونيين من عدة جامعات أمريكية مرموقة لتعريف المقصد الذي عناه المشرعون الأوائل بالجرائم والجنح الكبرى، كذلك لم تسلم مصطلحات تبدللسطح متعارف عليها من قبل الجميع على اختلاف الأطراف في تعريفها ومثال ذلك مصطلحات رشوة «Bribery» وابتزاز «Extortion» وإساءة استخدام السلطة «Abuse of power».
تاريخيا هناك ثلاثة رؤساء أميركيين تعرضوا لإجراءات العزل أو كانوا قاب قوسين منها، أولهما الرئيس الأمريكي السابع عشر أندرو جونسون وتضمنت لائحة الاتهام ضده أحد عشر مبررا لعزله أهمها خرقه لقانون التعيينات الفيدرالية بعزله وزير الحربية المثبت من قبل الكونغرس وتغييره بآخر وتمت تبرئته في نهاية المطاف. الرئيس الأمريكي السادس والثلاثون ريتشارد نيكسون استقال من منصبه قبل البدء في إجراءات عزله على ضوء فضيحة ووترغيت، الرئيس الأمريكي الثاني الأربعون بيل كلينتون تم إصدار لائحة الاتهام ضده وشملت بندين هما شهادة الزور وإعاقة العدالة على خلفية علاقته مع متدربة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي. الرئيس الأمريكي الخامس والأربعون دونالد ترامب لائحة الاتهام الموجهة ضده تشمل بندين هما إساءة استخدام السلطة «Abuse of power»، وإعاقة الكونغرس من أداء واجباته «Obstruction of Congress». الدلائل والمؤشرات تؤكد وما لم يحدث ما ليس في الحسبان بأن الرئيس دونالد ترامب سوف تتم إدانته من قبل مجلس النواب بأغلبية ديموقراطية والذي يعمل كمدعٍ عام وسوف تتم تبرئته من قبل مجلس الشيوخ ذو الأغلبية الجمهورية والذي يعمل كهيئة محلفين مناط بها أصدرا الحكم بتبرئة أو إدانة الرئيس بما نسب إليه من تجاوزات تضمنتها لائحة الاتهام.
صراع المفاهيم حول شرعية الإجراءات لعزل الرئيس ترامب أو عدمها سوف تمتد تباعاتها ليس فقط على الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر 2020 والتي سوف تشهد سباقاً محموماً وغير مسبوق للفوز بها من قبل الديمقراطيين والجمهوريين الهادفين لإعادة انتخاب الرئيس ترامب لولاية ثانية وبمشاركة ستكون غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة المشاركين في التصويت عليها، بل سوف يشمل الصراع في آونة لاحقة كذلك كل انتخابات التجديد للكونغرس بغرفتيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ. يقول الأمريكيون في أمثالهم «The Stakes are high»، بمعني أن المخاطر متعددة والحسابات حساسة، وهو ما ينطبق تماما على الوضع السياسي الأمريكي الداخلي الحالي بين كل من الحزبين الرئيسين الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي.