عبدالمجيد بن محمد العُمري
يتواتر الثناء والذكر الحسن عن معالي الدكتور عبدالله بن عمر نصيف -شفاه الله- وعن خلقه الكريم وتواضعه الجم، وعن همته العالية في أعمال الخير مع رجاحة العقل وبعد النظر وسداد الرأي، وهذا الشيخ الجليل نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً، من الرجال التقاة الصالحين الناصحين المخلصين الذين ينكرون ذاتهم ويغلبون المصلحة العامة على المصالح الشخصية والأهواء.
والشيخ الحصيف عبدالله بن عمر نصيف سليل أسرة (سلفية) علمية وتجارية جمعت المجد من أقطابه في العلم والكرم والتجارة والوجاهة، واشتهرت بالأمانة ومحبة الناس جميعاً من وجهاء المجتمع وحتى بسطائه، وقد توارثت الأسرة الكريمة (بيت آل نصيف - من قبيلة حرب) معالي الأمور والبعد عن السفاسف والدنية، ورزقهم الله محبة الناس منذ أيام جدهم الأول الوجيه (عمر)، وهو رجل الأعمال المشهور في جدة وصاحب المقام الأول في إكرام ضيوفها من الرؤساء والعلماء والوجهاء الذين يفدون للحج والعمرة مروراً بجدة، وهذا الجد الملقب بـ(عمر أفندي) هو من بنى قصر آل نصيف قبل مائة وأربعين عاماً وخلفه من بعده حفيده العالم الوجيه والتاجر النزيه محمد بن حسين نصيف -رحمه الله-، وسيرة وتاريخ رجال الأسرة الأفذاذ خير شاهد على ما نقول، فكم صدّر هذا البيت العريق من العلماء والحكماء ورجال المال الأعمال ولايزال رافداً لمجتمعهم بذرية صالحة من البنين والبنات بارك الله فيهم.
وبداية معرفتي بالدكتور عبدالله بن عمر نصيف ربما تزيد على الثلاثين عاماً، ولي معه مواقف عديدة، وكل موقف منها يستحق الذكر لولا طول شرحه وتفصيله.. وكان القاسم المشترك في هذه المواقف والقصص والأخبار (نبل هذا الرجل وكريم أخلاقه وطيب معدنه).
رغم فوارق العمر والمقام بيننا إلا أن أستاذنا -حفظه الله- يبادلك الحديث وكأنك نديم له وبلا فوارق فيخجلك وهو يتعامل معك بهذا اللطف الطبعي غير المتصنع ولا المتكلف، ويأسرك بكلامه ومقاله قبل أفعاله وأعماله، وما لقيته وجالسته إلا ورأيت فيه صورة مثالية لسمو الأخلاق الرفيعة والصفات الحميدة، فالرجل كريم بلسانه وبنانه، وينساب كلامه الطيب على قلوب الناس عذباً صافياً فهو مأنوس اللفظ جميل العبارة مع صوت ونبرة مميزة تتمنى ألا ينقطع حديثه، وهو المقل في الكلام ودائم الابتسام ويغمرك ببشاشته، بل ويغمر كل من يراه سواء عرفه أم لم يعرفه.
التقيت بالشيخ عبدالله نصيف في حضر وسفر وتشرفت بأن أكون معه في جلسات ولقاءات، بدأت منذ عام 1407هـ وتحديداً في موسم الحج وفي عرفات وبمخيم رابطة العالم الإسلامي، حين جئت للمخيم بعد أن أنهى إمام وخطيب عرفات خطبته وجمع صلاتي الظهر والعصر.. وكان سبب القدوم لأصحب أحد ضيوفهم وهو الشيخ عبدالله البسام -رحمه الله- ليلتقي المسلمين الجدد الذين قدموا للحج على نفقة بعض المحسنين، ومع دخولي للمخيم كان من أوائل من لقيتهم معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي آنذاك عبدالله عمر نصيف، وهو أول لقاء مباشر معه، وكانت خيمته في المقدمة عامرة بالضيوف من مختلف الألوان واللغات والأجناس والأعمار، وحينما رآني أقلب بصري بالحضور بعد السلام واقفاً بحثاً عن الشيخ البسام، بادرني بنبرة لطيفة (ممكن أخدمك بشي يا ولدي..؟)؛ وأخبرته عن مقصدي، ثم أخبرني رجل حوله برقم خيمة الشيخ، وذهبت ووجدت د. عبدالله المصلح الذي رحب هو الآخر، وقال لي: إن الشيخ البسام ليس بهذه الخيمة، فعدت للخيمة الرئيسة وبادرني د. نصيف مرة أخرى بترحاب (بشِّر هل وجدته).. وأفدته بأني لم أجده، فما كان من معاليه وفي عز الظهيرة الحارقة إلا أن قام بنفسه وأخذني معه لنبحث سوياً في جميع الخيام عن الشيخ عبدالله البسام.
الموقف الآخر في بريطانيا وبعد عشرة أعوام تقريباً وفي مناسبة افتتاح مركز إسلامي ضمن وفد كبير جاء لافتتاح المركز، وقد خصصت لمعاليه سيارة خاصة مع سائق خاص، وفي بهو الفندق رأى أحد المدعوين (ليس من علية القوم) متأففاً ويريد سيارة أجرة ليذهب لموعد خاص في إحدى الجامعات وقد تأخر عليه زميل له في البلد متعذراً منه هاتفياً وفي آخر لحظة بالزحام وبعد المشوار وعدم تمكنه من المجيء في الموعد المناسب.. فبادر د. نصيف وبلا طلب بأن قال للرجل: إذهب مع السائق والسيارة المخصصة لي، فرد الرجل أن الطريق طويل وأمامك مناسبة تستلزم وجود السيارة مع معاليكم فما كان جواب د. نصيف إلا أن قال: (توكل على الله، سأركب مع بقية المدعوين في الحافلة.. أنا ليا زمان ما ركبت باص).
شاركت في مؤتمر في مكة المكرمة أقامته الرابطة وكان حينها قد ترك الرابطة والشورى وأصبح نائباً لرئيس مركز الحوار الوطني، وفي الجلسة التي قدمت فيها بحثي المعنون بـ(جهود المملكة في التعريف بالإسلام في الغرب).. كان معاليه هو رئيس الجلسة وكان منتصفاً بيني وبين د. عصام فيلالي الأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز، وحينما حل دوري قلت لمعالية أنت المنصف ولست بالنصيف ولكني أخشى من (الميل) فأنت ود. فيلالي جميعكم من (الجيولوجيين) وليس لي بمناطحة الصخور، فضحك معاليه والحضور فقال: سأتبرع بوقتي من التعليق لك إن احتجت لذلك لتعلم أنك حللت أهلاً ووطئت سهلاً وليس صخراً.
والموقف الآخر -والمواقف كثيرة- كان في جمهورية مصر العربية وفي اجتماع المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة في عام 1425هـ بحضور مفتي مصر الشيخ سيد طنطاوي -رحمه الله- وكان مقر الاجتماع الدوري والضيافة في مقر اتحاد الكشافة العرب وفي مقر الاتحاد (سكن ضيافة) بسيط جيد يشبه مساكن الطلبة الجامعيين وبيوت الشباب، ورغم مقام معاليه إلا أنه سكن مع جميع الوفود في هذا السكن البسيط المتواضع، وحينما أراد الانصراف وزع على العاملين في السكن مبالغ مالية تفوق أجرة الثلاثة أيام في فنادق الخمسة نجوم الفاخرة، ولا أخفيكم أنني سكنت في أول ليلة وقد توجهت من المطار مباشرة لأقيم في فندق فخم يطل على النيل، وحينما رأيت معالي د. نصيف خجلت وأتيت للسكن معهم وقضيناً أمسيات ماتعة معه ومع المهتمين بالعمل الدعوي والإغاثي في العالم الإسلامي.
الكثير والكثير من القصص والأخبار التي سمعتها أو عايشتها معه أو وقفت على أحداثها بنفسي مما يتصل بالسيرة الطيبة لهذا الشيخ الحصيف الذي نشأ بين أهل العلم والديانة والتجارة وعايش أجواء الوجاهة منذ نعومة أظفاره فلم تزده سوى التواضع الجم ومحبة إسعاد الناس ورسم الابتسامة على وجوههم.
نصيف عمل الخير منذ الصغر ولم يبخل بوقته وجهده وماله وحتى وجاهته ليس في أعمال البر والإحسان في مدينة جدة أو منطقة مكة المكرمة وعموم مناطق المملكة بل امتد أثره ونفعه العديد من دول العالم العربي والإسلامي ومجتمع الأقليات المسلمة، وقد وقفت على ذلك عياناً في عدد من بلدان العالم من مساجد ومعاهد وجمعيات عم خيرها الجميع، فقد عاش منذ شبابه وحتى مرضه -شفاه الله وأحسن لنا وله الخاتمة- ساعياً في قضاء حوائج الناس مساهماً وباذلاً، شافعاً وناصحاً، والكل ينهل من بحره الفرات ويقتطف من مكارم أخلاقه النائفات المتجاورات، ولم يكن محباً للخير فحسب، بل ومتجنباً أن يؤذي أحداً بقول أو فعل وكان عفيف القلب سليم الصدر طاهر اليد بل أشمل من ذلك أنه كان حريصاً على إصلاح ذات البين في داخل المملكة وخارجها، وحينما يعلم عن خلاف بين أفراد وجماعة وجمعية ومؤسسة يبادر للإصلاح.. وقد كتب الله له القبول من الجميع وقل أن يرد له طلب، وليس لديه خبرة في معالجة النوازل وفض المنازعات والمهارة في حل المسائل والمشاكل المستعصيات فقط، ولكن الله سبحانه وتعالى أسكن محبته في قلوب خلقه، وما إن يتحدث حتى تسمع حديثاً صادقاً نابعاً من القلب يسكن القلوب، وكثيراً ما أسهم في حل مشاكل وقضايا طال أمدها.
والشيخ عبدالله نصيف وقد كان يتقد عطاءً وخلقاً كان يكن لوطنه حباً خالصاً نراه عياناً بالأمانة والإخلاص فيما ولي عليه أو ما يبادر فيه ويمحض فيه النصح، وليس بغريب على المحب ولا على المحبوب هذا الحب وهذه المكانة، كيف لا وهي بلاد الحرمين الشريفين البلاد المباركة المملكة العربية السعودية التي تعود سكناها فلا يبدلها بغيرها ولو كانت جناناً من النعيم دانية القطوف.. ومما أذكره ويعرفه الكثير أنه حينما يفرغ من مقصده في الخارج وينهي عمله الذي سافر من أجله تجده حريصاً على العودة وفي أسرع وقت فلا يضيع وقته إلا بما ينفع.
ولقد نال ثقة ولاة الأمر في سنين مديدة ومواقع عديدة بدأت بإدارة جامعة الملك عبدالعزيز، ثم رابطة العالم الإسلامي، ثم كلف نائباً لرئيس مجلس الشورى، ولمركز الحوار الوطني، وعضوية عدد من المجالس والهيئات الحكومية والأهلية، وقبل مرضه -شفاه الله- الذي اشتد عليه منذ خمسة أعوام أنشأ مؤسسة عبدالله عمر نصيف الخيرية، وهو لا يزال خارج المملكة يتلقى العلاج.
معالي الشيخ عبدالله عمر نصيف -شفاه الله- ليس بحاجة للثناء بل للدعاء فلا حرمه الله الأجر والمثوبة، وهذه المقالة لا أقول بأنها من الثناء أو المدح المحمود، بل هو حق عام وليس خاص أن نذكر فنشكر كل من يسدي للناس معروفاً، ولأن ذكر مناقب الرجال وسيرهم الحسنة فيه تحفيز للآخرين على العطاء ولتحذو الأجيال سيرة الأفذاذ بالاقتداء، كما أن الثناء والذكر الحسن له أصل عظيم في ديننا فقد امتدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعمال حاتم الطائي وأثنى على كرمه وبذله وهو كافر، ومن باب أولى أن نذكر ونشكر كل صاحب معروف للناس.
أسأل العظيم ربّ العرش العظيم أن يشفي عبدالله بن عمر نصيف، وأن يجعل ما أصابه طهوراً وتكفيراً له ورفعة له في الدرجات.