د. محمد عبدالله العوين
هذا التساؤل المقلق قد يرد على ألسنة بعض المندفعين إلى الارتماء في أحضان الثقافات والحضارات الأخرى المهيمنة على التقدم الصناعي والاقتصادي والمدني؛ وبخاصة حينما يقارن ذلك النفر المندفع بين تأثير اللغات الغالبة على مقود الحضارة وتأثير العربية الضعيف في الحضارة مع الأسف.
وفي البدء؛ هل يمكننا كبح جماح الاندفاع نحو تأثر بيئاتنا بالحضارات الغالبة؟ وهل محاولة صد التأثير الأجنبي راشدة وحكيمة؟ ثم هل نستطيع ذلك؟ وما مدى قدرتنا إن أردنا أن نقف أمام تغول التأثير الأجنبي علينا في كثير من مناحي حياتنا المعيشية والاجتماعية؟!
ولأن الإجابة جلية ومقطوع بها؛ وهي أننا لن نستطيع مهما تعالت أصواتنا، ومهما أنفقنا من الوقت والجهد في صد تأثير الحضارات المتغلبة. لأن المنتصر يفرض شروطه، ولأن المغلوب يلهث مستسلماً نحو الغالب وهماً منه أو مصدقاً بأنه لن يتمكن من التفوق إلا بما سار عليه الغالب المنتصر من فكر وما مارسه من سلوك وما اعتقده من رؤية في الحياة وما تحدث به من لغة وما عزف أو ترنم به من أغنية.
وفي كثير من الحالات يلهث المغلوب نحو الغالب معجباً به؛ حتى وإن استبد به وسامه سوء العذاب.
صحيح أن الحضارات الإنسانية المهيمنة المنتصرة تختلف وتتفاوت في سلوكها وشعورها بالتفوق والغلبة، وهنا المقياس الأخلاقي التاريخي الذي يخلد قيم حضارة فتحت ولم تحتل أو تستعبد كالحضارة العربية الإسلامية في معظم مراحلها التاريخية خلال ثمانية قرون من الإشعاع والتأثير الإنساني العظيم في المشرق العربي وفي شبه الجزيرة الآيبيرية (الأندلس) ويشنع بحضارة غالبة أخرى استبدت واضطهدت وشردت وأحرقت الأخضر واليابس، وفي سياق التاريخ شواهد كثيرة تفوق الحصر؛ ليس بدءا بالتتار على بغداد والشام ولا انتهاء بالحملات الصليبية، ولا بالاحتلال الأوربي لعدد من الدول العربية بعد معاهدة سايكس- بيكو 1916م ولا انتهاء بالاجتياح الفارسي بواسطة مليشياته الإرهابية التي دمرت وأحرقت وشردت وعثت فسادا في أربعة بلدان عربية.
ونحن الآن في مرحلة التأثر لا التأثير هل يمكننا أن نوقف مد تأثير اللغات الأخرى الغالبة على لغتنا؟ وهل من الحكمة أن نسعى إلى ذلك؟!
ربما يتبادر إلى ذهن كثيرين من الحريصين على سلامة لغتنا العربية أنني أدعو إلى تهميش لغتنا بحصرها في نطاق ضيق ومزاحمتها باللغات الغالبة، أو ربما يظن آخرون أنني لا أنطوي على شيء من الغيرة نحو سلامة لغتنا والانتصار لها، وهذا وهم سأرد عليه في الجزء الثاني من هذا المقال.
لقد كتبت مقالات وتغريدات عدة عن واجب حماية لغتنا؛ لكنني لم أغفل أبداً عن حقيقة أن اللغة جزء من كل، وضعفها متصل بضعف أمتها. وأمام هذه الحقيقة المؤلمة التي لا أعتقد أننا نختلف في التسليم بها؛ وهي أن مقود الحضارة بيد اللغات الأخرى غربية أو شرقية علينا أن نبحث عن سبيل حكيم للتعايش مع الآخر؛ لكي نفيد ونستفيد، دون أن نذوب ونفنى أو ننعزل ويصيبنا الوهن والموات.