علي الخزيم
لم أعد أصدق مزاعم أمْلِيَت علينا بصغرنا وغُرست بخيالنا بأن أغزل بيت بالشعر قول فلان، وأفخر بيت لفلان، وأهجى بيت لعلان، هذا الادعاء لا يثير اهتمامي، وكلما تكررت المزاعم؛ فإني أؤكد أن الإبداع بأي صنعة أدبية وفكرية وفنون الشعر وغيرها من ملكات الإبداع البشري لم يجعلها الله سبحانه وقفاً على زمن أو مجتمع أو طبقة محددة، وأرى أن قياسات من لقنونا تلك المزاعم كانت نتيجة لحصر معارفهم على منقولات من أزمنة محددة، وتوقف النقل والتداول المعرفي لفترات بسبب ظروف اكتنفت المناطق العربية والإسلامية لهيمنة جهات أرادت السيطرة على المنطقة إحياءً لأحلام بإعادة أنفاس إمبراطوريات بائدة، وكان على العالم العربي والإسلامي أن يدفع ثمن تلك النعرات والعنتريات والانشغال عن الإبداع بمواجهة الظلم والطغيان والحفاظ على كرامة الأوطان.
وذرية آدم عليه السلام منذ هبطت للأرض وهي تعيش تطوراً إبداعياً متتابعاً متزايداً بتواصل منهجي وتراكم معرفي؛ وتنقلت المجتمعات باختلاف تكوينها المعرفي الثقافي من ثقافة وحضارة لأختها وأفضل منها، وتتدرج الإبداعات نحو الأفضل يعزّزها ما يتوافر من معطيات ابتكارية وآلية تكون هي بدورها أدوات لمراحل إبداعية لاحقة، وعليه فإن هذا التنوع الإبداعي والتسلسل المعرفي لا يمنح أحداً أحقية التوقف عند مشروع إبداعي فكري أو صناعي ليوصف بأنه الأفضل إذ إن هذا المُنجز المُتحصَّل ستبنى عليه أفضليات منشؤها تطوير الفكرة وتمدد واتساع دائرة الفكر الإنساني الشامل.
ولا يغيب عن البال أن ثمة شخصيات إبداعية عربية سابقة لو وجدت معطيات العصر الحالي لقَدَّمت للبشرية ما لا يخطر ببال، وكمثال -تَمثَّلت به أكثر من مرة بتدوينات مختلفة- صاحب العقلية الفذة (عثمان بن بحر الجاحظ) فإني أرى أنه لو ملك آلة الرسم وتقنية الحاسوب وإمكانات التلفزة لأخرج لنا أروع الرسوم الساخرة والرسوم المتحركة الفائقة، ولكتب لوسائل الإعلام والسينما أرقى القصص والسيناريوهات ما قد يقصر دونها كثير من المؤلفين والرواة المعاصرين؛ إذ إنه مبدع راقٍ متعدد المواهب حتى بنقده الساخر لذاته؛ هو مثال لجملة المبدعين العرب والمسلمين عبر العصور ممن قدموا بجهدهم لامتهم الكثير.
إبداع عنترة بن شداد وهيامه الشعري بعبلة؛ أنموذج رائع لم يقف عند زمانه! ومثله الجوانب الإبداعية كافة لكل المبدعين، فمن النجوم اللامعة بسماء الشعر الآن الشاعرة المعاصرة (سارة الزين)؛ اقرأ قصيدتها المفعمة بالرقة والحنين؛ وبنغم طروب يأخذ الألباب:
عتبي عليكَ وكم تغيبُ وأعتبُ
وتطيلُ بُعدكَ يا قريبُ وأعجبُ!
أنا لا أبالي بالأنامِ ملَلْتُهُم
حسبي بأنّكَ مُقلتايَ وأقربُ
ويقول علي الجارم عن عنترة:
الْحُبُّ أَلْبَسَهُ الْمُرُوَءَة يافِعًا
وَأَعَدَّهُ لِلْمَكْرُماتِ غُلاما
وللشاعر المصري المعاصر محمد عبدالوهاب:
نسرِي ونسرِق من كرم الهوى قُبلاً
كشهقة الورد قبل الفجر إن قُطفا
أغْمِض عيونك عنا يا زمان فكم
طال الطريق وكم بحر بنا عَصَفا
وللعملاق غازي القصيبي:
وأصدقُ الشِّعر بيتٌ فرَّ من شفتي
وضلّ عن درب قرطاسي فلم يَصلِ