فوزية الجار الله
قرأت مقالاً للكاتب السوداني المعروف أمير تاج السر تحت عنوان «عمر الكتابة»، هرعت إليه حالما لمحت عنوانه اللافت وقد أخذتني مخيلتي إلى توقعات شاسعة، ظننت بأن الكاتب سوف يأخذني إلى أفاق عظيمة حول عذوبة الكتابة، مروجها، أزهارها وأشجارها، جزرها، بحارها وأنهارها وبالتالي حتميتها!.
في مطلع المقال صافحتني كلمات جميله، حيث يقول: إنه كان ولا يزال من الذين يؤمنون بأن الكتابة بشقيها الإبداعي وغير الإبداعي، من كتابة سياسية وصحفية وعلمية وتاريخية، ينبغي أن تكون واحدة من المهن المعترف بها، حيث تستغرق كثيراً من الوقت والمجهود، وأن كثيراً من الكتّاب الأسخياء يقضون حياتهم كلها منغلقين خلف الجدران يصارعون أفكارهم وهواجسهم من أجل الكتابة.
ويذكر الكاتب بأن بعض الكتاب حين يمتد به العمر ويطول عمره الكتابي ربما يصل مرحلة من الملل أو عدم الرغبة في الاستمرار، وعليه عندها أن يتنحّى ويتوقف عن الكتابة ويترك الفضاء لآخرين غالباً هم تلك الأجيال التي تأتي بعده لإكمال المسيرة.. هنا فوجئت برأي الكاتب، وأنا لا أتفق معه، لا أعتقد أن على الكاتب أن يتوقف إطلاقاً، ما دام يتمتع بصحة جيدة، لأسباب كثيرة ندركها حين نأتي إلى إجابة الأسئلة التي طالما فرضت نفسها بقوة حولنا هنا وهناك.
لماذا نكتب..؟ ولمن نكتب..؟
وأنا هنا أتحدث عن الكاتب المبدع المخلص لذاته وأفكاره ولمهنة الكتابة ذاتها التي يراها قدره وأمله، كأنما هي جذوة مضيئة يحملها طوال مسيرته في هذه الحياة لتضيء له دروباً معتمة، وبالتالي يهب الآخرين شيئاً من ذلك الضياء الذي يمنح الحياة قيمة وأهمية، فهناك دائماً ما هو جدير بالحديث حوله وعنه؛ وهناك دائماً ما يستحق النضال لأجله، هناك دائماً ما يستحق الحياة.
هذا الكاتب لا يكتب لإمتاع نفسه فقط ولا للتحدث عن تجاربه الخاصة وحسب وإنما يكتب لأجل أهداف أبعد وأسمى، أما ذلك الكاتب الذي يشعر برغبته في التنحي والتوقف فلا بدّ أن ثمة خللاً ما، لابد أنه يكابد وجعاً وألماً يشده إلى القاع ولا يملك منه انعتاقاً أو خلاصاً ولذا فقد أصبح زاهداً في كل ما يخفق بالحب والحياة بما في ذلك الكتابة ذاتها.. لماذا لا يتوقف الكاتب عن الكتابة؟.. لأن ثمة ما يقال وما يستحق التفكير فيه، لأن ثمة تيارات غريبة ورياحاً ساخنة تحمل بذور خراب لهذا العالم ولابد من التصدي لها من خلال الكلمة، لأن ثمة آفاقاً شاسعة منسية لابد من إضاءة الدرب المؤدي إليها من خلال الكلمة، يقول جلال أمين ضمن كتابه «المكتوب على الجبين» (إني أعرف أنه لا يمكن لكاتب مهما بلغت جرأته أن يقول الحقيقة لا عن نفسه ولا عن كثيرين ممن عرفهم من الناس، ولكني لا أخفي على القارئ أني كنت دائماً أطوي نفسي على أمل دفين أن أقترب أكثر فأكثر في يوم ما في المستقبل من قول الحقيقة كاملة).