د. حسن بن فهد الهويمل
فُجع المشهد الأدبي، والإعلامي برحيل علم من أعلامه, كان مثال: الجد، والجلد، والكفاح، والمثابرة .
(الفتى مفتاح) «عبد الفتاح أبو مدين» يتيم لحق بخاله في (المدينة المنورة), ووجد في طيبة الطيبة دِفء: الأمن, والأمان، والإيمان، ومجالات الكسب الشريف, والكدح المتواصل.
صنع نفسه بنفسه، واختار مهنة (الكلمة), وحرفة الأدب: عشقاً، وتعلّقاً، وارتزاقاً, وما أكثر الذين عاشوا على شباة القلم, وإدركتهم حرفة الأدب.
سلك طرقاً شاقة، لم تكن ممهدة، ولا واضحة المعالم:
- طريق العمل لكسب الكفاف، وكلنا ذلك الرجل.
- طريق التعلّم لِصناعة الذات في عصر الكتاتيب، والتعليم النظامي.
لقد جَدَّ في الطريقين، ولما لم يكن مؤهلاً، فقد رضي بالوظائف الكتابية الشاقة القليلة الكسب.
كان طموحه فوق ذلك كله، ولكن الحياة إذ ذاك صعبة المنال.
ولمّا شبَّ عن الطوق, سعى وراء رزقه, فانتقل إلى (جدة) التي حطَّ فيها رحاله. واستهوته شواطئها الجميلة, وحيواتها الصاخبة, ومجالات العمل المتعدِّدة, والحركة الأدبية المتواضعة.
لم يتعرّف على كبار المسؤولين, ولا على رجال الأعمال، بل بحث عن الكُتَّاب, والأدباء, والشعراء, والإعلاميين, وهم صعاليك المجتمع, يُمضي معهم وقت فراغه, ويُرْوِي من فيض عطائهم عطش فكره, وذَوْقِه.
كان وديعاً في تعامله, لطيفاً في صحبته, وفياً في علاقاته, ولكنه كان عنيفاً في حَرْفِه, جريئاً في رأيه, لا يحابي, ولا يجامل, كان صدَّاعا بالحق. وجَدَتْ فيه الصحافة بغيتها, لأن كلماته تثير الجدل, وتحفّز على المتابعة.
بدت محاولاته الأولى في (البلاد), و(المنهل), راوح في كتابته بين المقالة الاجتماعية, والنقد الأدبي.
قرأ لأصحاب الأساليب المتأنقة: (الزيات) و(طه حسين).
ولأصحاب الأساليب العنيفة العميقة: (العقاد) و(الرافعي).
ولأصحاب الأساليب الأخاذة السَّاخرة: (زكي مبارك) و(المازني), فكان (طَحْسِنيًّا).
كان (أدباء الحجاز) على صلة وثيقة بأدباء (مصر), يتابعون مدارس الأدب: (الديوان) و(أبواللو). والمناوشات العنيفة في النقد: الذوقي, والانطباعي.
ومثلما ظهر كتاب (الديوان) و(وعلى السفود) في مصر ظهر في الحجاز كتاب (المرصاد) (للفلالي), وكتاب (أمواج وأثباج) لأبي مدين.
يُعَدُّ (الفتى مفتاح) من جيل الأدباء الثالث في الأدب العربي في (المملكة العربية السعودية).
عاصر الرواد (الصبان) و(العواد), وقرأ أعمال الشعراء قراءة نقدية.
أصدر جريد (الأضواء) مع صديقه (باعشن) ثم استقل, وأصدر مجلة (الرائد). استقطب الشباب, وشجعهم, واتَّسَعت صفحات (الرائد) لِجُرْأتِهم.
كنت واحداً ممن شدّ عضدهم, وشجعهم, ونشر لهم. بعدما أغلقت في وجهي كل الأبواب.
عندما تعذر (الأنصاري) عن نشر أول دراسة نقدية لي, كتبتها بعنف الشباب, وصلف المثالية عن ديوان (القلائد) للسنوسي, في مجلة (المنهل), استقبلها (أبو مدين) استقبال الفاتحين, ونشرها. فأحدثت ضجة عالجتُ آثارها فيما بعد.
وحين رأس (نادي جدة الأدبي) أحدث نقلة نوعية فاق بها كل مجايليه. كنت وقتها رئيساً لـ(نادي القصيم الأدبي).
لقد أتاح لي منبر النادي محاضراً, ومشاركاً, ومنازعاً للحداثيين.
وَسِعَ مشهد النادي الشباب المتحمسين للتجديد. بل تجاوزوا ذلك إلى التحديث, والحداثة, حتى لقي في مشواره نصباً, وتحدياً كاد يكسر مجاديفه, ويمزِّق أشرعته.
كان المشهد الأدبي في (جدة) يموج بتيارات أدبية متعدِّدة .
- تيار المحافظة، وتيار التجديد المتوازن.
- وتيار الحداثة بشقيها: الفني، والفكري.
شرَّع أبواب النادي لكل الأطياف, وأحسن إدارة الاختلاف، وأرضى كل الأطراف، أو كاد. دخل الأكاديميون الحلبة, وارتفع صوت التنازع بين نقاد الصحافة, والنقاد الأكاديميين, ونقاد النادي.
أخذ النادي على يده سبيل النشر المتميز, عبر الكتب، والمجلات, وتميز بندوة (قراءة النص) التي اعتمدت على النقد المعياري المعرفي الحديث.
كان النقد الأدبي (سياقياً) يهتم بـ(المنهج التاريخي), وكانت الأقسام الأدبية في الجامعات تعتمد عليه، وكان جيلي مُنْتج هذا الاتجاه.
ولما فتح النادي أبوابه لكل التيارات, والمناهج, وعاد المبتعثون, تحول (مركز الكون النقدي) من المنهج السياقي, إلى المنهج (النسقي).
كان المفكر اللغوي الدكتور (لطفي عبد البديع) ممن استقطب الشباب في جدة, وطرح مشروعه اللغوي. الذي صرف بعض تلاميذه من تخصصاتهم إلى رؤيته اللغوية الخالصة, المتمثلة بـ(البنيوية) و(التفكيكية) فشاعت تلك المناهج الألسنية التي اتخذوها ثقافة لا تخصصا.
ومن ثم تبرأ البعض من تخصصه, وأمسكوا رسائلهم, وبحوثهم على هون.
لقد شكل أسلوب إدارته للنادي منعطفاً مهماً في الحركة: الأدبية, والنقدية. ومن ثم أصبح من رواد التجديد الذي بدأه (محمد حسن عواد) الرئيس الأسبق للنادي. وعلى ضوء جهوده الأدبية مُنِح وسام الملك عبدالعزيز, وكرِّم في (الجنادرية).
وهو بحق جدير بكل إجلال, لأنه نذر: نفسه, وجهده, ووقته للبعدين الأدبي, والإعلامي, فكان بحق رائداً لا يكذب أهله.
رحمه الله رحمة واسعة, وأسكنه فسيح جناته. وجبر مصاب أهله, وذويه, وخلف على المشهد الأدبي خيراً منه.