منصور ماجد الذيابي
بعد تفكك وسقوط الإمبراطورية السوفيتية لدولة اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية في 26 ديسمبر 1991م أعلن الرئيس السابق ميخائيل جورباتشوف استقالته وتسليم كافة سلطاته الدستورية بما فيها السلطة على الأسلحة النووية الروسية إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسن، وما تلا ذلك من إعلان الجمهوريات السوفيتية بما فيها روسيا، انفصالها عن الاتحاد السوفيتي السابق. ولقد شكلت هذه المرحلة منعطفًا قويًا وحقبة مفصلية في التاريخ من حيث إنها جاءت إعلانًا لنهاية الحرب الباردة بين قطبين نوويين هما منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلف وارسو. وفي حقيقة الأمر أن الدولة السوفيتية -وهي القوة العظمى الثانية- لم تكن لتنهار أمام القوة العظمى الأولى لحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لولا استمرار ليونيد بريجنيف ومن بعده جورباتشوف باتباع سياسة الزعماء السوفييت السابقين، إِذ بقي بريجنيف وجورباتشوف يسيران على خطى لينين وستالين عندما اتجه كل منهما خلال حقبة حرب النجوم إلى بناء ترسانة عسكرية هائلة على حساب التنمية الاقتصادية والحالة المعيشية التي تدهورت إلى درجة توزيع بطاقات تموينية على كل مواطن سوفيتي للحصول على الحد الأدنى من السلة الغذائية الاشتراكية.
وقد استمر هذه الحالة الاقتصادية لسنوات طويلة نتيجة لمجاراة أمريكا والحلفاء في سباق التسلح وإطلاق الأقمار الصناعية التجسسية والصواريخ النووية إلى الفضاء. لقد ذهبت كل موازنة الدولة آنذاك للإنفاق على بناء القوة النووية والصاروخية حتى انهارت الحياة الاقتصادية تمامًا وضاق الشعب السوفيتي ذرعًا بتردي الأحوال المعيشية في بلاده إلى درجة وقوف المواطن في طابور طويل وفي يده بطاقة تموينية للحصول على رغيف الخبز وبضع كيلو جرامات من الطماطم والبطاطس. وفي عام 1991 برك الجمل بحمله الثقيل، ولم يعد قادرًا على الوقوف أمام العدو اللدود والخصم العنيد.
نسمع ومنذ أن كنا في صفوف الدراسة الابتدائية عن طموحات روسيا بالوصول إلى المياه الدافئة في إشارة إلى منطقة الشرق الأوسط الغنية بالثروات الطبيعية والمتميزة بالأجواء المناخية الدافئة الأمر الذي يسيل له لعاب روسيا وبعض الدول لتوسيع نطاق أطماعها في منطقة الشرق الأوسط الغنية. وقد أخذ هذا التمدد والتوسع أشكالاً مختلفة كما ذكرت في مقال سابق بعنوان «ماذا بعد إشعال الحرائق في الشرق الأوسط؟». فتارة يتم تمرير السياسة الاستعمارية التوسعية تحت غطاء محاربة الإرهاب للحفاظ على استتباب الأمن وترسيخ دعائم السلم والاستقرار الدوليين، وتارة يتم التغلغل تحت مظلة الاستثمار في الاقتصاد ومساعدة الدول الفقيرة لتعزيز مشروعات التنمية في كافة المجالات من خلال إبرام الصفقات التجارية وزيادة حجم التبادل التجاري.
ومن أجل ذلك كانت روسيا استضافت قبل نحو شهر تقريبًا القمة الروسية الإفريقية بالتزامن مع أعمال المنتدى الاقتصادي «روسيا - إفريقيا» في منتجع سوتشي الروسي حيث أسفرت القمة هناك عن توقيع عقود كبرى واتفاقات تؤسس لتطوير شراكة إستراتيجية تستهدف زيادة الحجم التجاري بين روسيا والقارة السمراء من 20 مليار دولار إلى 40 مليار دولار خلال الأعوام المقبلة. وكان الكرملين أعلن خلال أعمال المنتدى الذي شاركت فيه أكثر من 104 دول وكيانات أجنبية إلى جانب الدول الإفريقية، كان قد أعلن عن توقيع أكثر من 30 عقدًا ومذكرة تعاون مع بلدان القارة الإفريقية. وكان أبرز ما أعلن عنه آنذاك هو إطلاق صندوق استثماري مشترك بقيمة خمسة مليارات دولار، وعقد لشركة السكك الحديدية الروسية مع مصر تبلغ قيمته الإجمالية نحو مليار دولار، فضلاً عن عقود عسكرية أخرى مع عدد من بلدان القارة السمراء.
كل تلك الاتفاقيات الاقتصادية والتفاهمات السياسية لم تكن إلا مدخلاً للوصول إلى إفريقيا بهدف منافسة الصين وأمريكا وفرنسا وغيرها. وان ما يؤكد ذلك هو ما سمعنا عنه مؤخرًا من اتفاق بين قوات المشير المتقاعد خليفة حفتر وقوة عسكرية روسية يتم بموجبه إحلال قوات مرتزقة روسية في قاعدة الجفرة لمساعدة قوات الجيش الوطني الليبي في المعركة ضد قوات حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة. هذه الطبخات السياسية والتفاهمات السرية ليست بغريبة علينا، فقد حدثت من قبل بين روسيا والنظام السوري، وها هو السيناريو يطبخ اليوم ويتكرر في ليبيا بهدف تعزيز الوجود العسكري لروسيا قبالة المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط.
يعلم الجميع أن روسيا تتبع سياسة تقوم على استغلال الحروب الأهلية والثورات السلمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتحقيق مكاسب على الأرض كما حدث من قبل في سوريا حيث مازالت القوات الروسية تقصف المدن والقرى السورية لإرضاء النظام السوري الذي منح روسيا تأشيرة استعمار عسكري تسمح لهم بالوجود عسكريًا لأمد طويل مقابل حماية النظام من السقوط على يد قوات المعارضة السورية وليس مقابل حمايته من صواريخ إسرائيل. وفي ليبيا، وعندما فشلت قوات الجيش الوطني في حسم المعركة للسيطرة على طرابلس العاصمة وجدت روسيا في ذلك فرصة كبيرة للتغلغل بين الأطراف الليبية المتصارعة على السلطة منذ سقوط العاصمة بيد الثوار والإطاحة بنظام القذافي في 27 أغسطس من عام 2011م
وكما قلت سابقًا بأن مثل هذه الصراعات المسلحة تفتح شهية الدول الاستعمارية للمشاركة إلى جانب الطرف الذي يقدم تسهيلات وامتيازات أكبر تضمن له نصيب الأسد من آبار النفط وبناء قواعد عسكرية لإبعاد «الأسود والذئاب والنمور والصقور» الأخرى وتهديدها في حال اقترابها من الفريسة قيد النهش والتقطيع. ولذلك كانت أمريكا دخلت العراق عام 2003 بذريعة تدمير أسلحة كيميائية، ثم بعد ذلك دخلت إيران في لبنان والعراق وسوريا واليمن. ولا ننسى كذلك دخول تركيا عسكريًا في قطر ثم في سوريا بحجة ملاحقة الأكراد في مناطق الشمال السوري. واليوم تنكشف أوراق أخرى عندما أعلنت بعض المصادر عن تعاون تركيا مع حكومة فايز السراج في ليبيا. وبسبب تعقيدات الملف الليبي نتيجة الحرب الأهلية التي طال أمدها فقد تدخلت روسيا وتركيا للقتال إلى جانب طرفي النزاع الليبي أملاً في الحصول على موطئ قدم جديد في القارة الإفريقية.
هذه «الفزعة» العسكرية لكلا الدولتين إنما تهدف إلى بسط النفوذ إلى الحد الذي يتيح المجال أمام الشركات الروسية والتركية بالدخول تحت الغطاء العسكري وشفط النفط الليبي مجانًا كما النفط السوري والعراقي من قبل ذلك. وما يحدث في ليبيا منذ سنوات لا يختلف كثيرًا عمّا حدث في العراق ويحدث في سوريا. فالنزاع المسلح القائم حاليًا بين الأطراف الليبية أدى إلى استقواء كل طرف بقوات أجنبية وبالتالي فإن هذا النزاع لا يخدم المجتمع الليبي وإنما يفتح المجال أمام التدخل الخارجي لتحقيق مصالح دول استغلالية تدخل دائرة الصراع لتمكين أي من طرفي النزاع من الاستحواذ على السلطة السياسية مهما كلف الأمر من ضحايا بشرية وخسائر مادية. ولكل فزعة ثمن باهظ.