عبد الرحمن بن محمد السدحان
* داعبني أحد الأصدقاء ممن عاصروني زمنًا طويلاً فقال. هناك قدر كبير من (اللاّشيء) في طفولتك.. هل بقي في تلك التضاريس شيء من ذاك (اللاّشيء)؟ فقلت، بعد أن أفَقْتُ من نشوة السؤال:
* لو لم يقترن يا صديقي ذلك (اللاّشيء) بطفولتي ندرةً تشبه العدم، وعدمًا يحاكي الحرمان، وحرمانًا.. لا ينافسهُ إلا اليأس قهرًا لما شهدتُ هذه المرحلة من حياتي.. بكل ما فيها من مفاتن العْيشِ، وراحة البال وتنوّع العطاء.. بفضل من الله، أولاً وآخرًا.. ثم بالصبر والصمود والتفاؤل بغد أفضل يلغي عصْف الصقيع في عظامي!
* * *
* كنت في زمني الغابر أستقبل النوم بملء جفوني وفي خاطري نبضٌ من أمل في أن أستقبل غدي بوجبة حافلة بسعرات الحياة.. خيرًا مِمّا كان في أمسي!
* * *
* ثم تحوّل الحال، وتَوارَى المُحال بفضل من الله، كَبُرت دائرة التفاؤل، ونبتتْ وُريْقات الأمل على جدران جسدي الناحل بفعل قسوة الزمان والمكان! ثم ازداد الأملُ إشراقًا، يعضّده كدُّ لا يعرف الملل ولا يعترف به، حتى بلغت من النعيم ما شئت، بل أكثر مما شئت! وذلك فضل من الله ونعمه!
* * *
* تخللت تضاريس حياتي وأنا صغير السن ضعيف الحيلة.. مقْصوصُ الجناح، منظُومةٌ من (الهجرات) بدْءًا من (عقبة) ضلع المطلّة على تهامة عسير الفيحاء، على ظهر جمل شبع من نقر ظهره الغراب، وكان ذلك ضمن قافلة (تجارية) من الإبل لا يشاطرني وحشةَ الليل سوى نجوم السماء وضحكات (الجَمّالة) وعزف خُفّ (البعير)! وكانت تلك هجرتي الأولى متّجهًا من أرض ميلادي عسير الجمال وتحديدًا من موقع (ربيع الحنان).. أمي، رحمها الله إلى جازان، حيث كان يقيم سيدي الوالد -رحمه الله-.
* وفي يوم رحيلي.. أصرّت سيدتي أم الحنان على مرافقتي إلى نقطة البداية في رحلتي الطويلة بمقاييس ذلك الزمان والمكان. وكانت تراقب من هامة ذلك الجبل بدايةَ مشواري الصعب نزُولاً سيْرًا على الأقدام، نُصِحْتُ به من لدن (الجمّالة) خوفًا على حياتي من الانزلاق من على ظهر الجمل، في ذلك الدرب الضيق المتعرّج، يحَدُّني الجبل يمينًا، والهوة السحيقة شِمَالاً!
* * *
* تلا ذلك هجرة (العودة) ثانيًا مع نفر من أفراد الأسرة إلى أبها، جزء منها كان على متن (جَمَل) وآخر كنا نمتطي سيارة عتيقة المشهد، بطيئة الحركة، وقد استأذنت سيدي الوالد في ذلك حيث لم يطبْ لي العيشُ في جازان مع أبي، رغم رفاهية (السمك) ولذة موائده! وعدتُ مجدّدًا إلى حِصْنِ جدي (لأمي) -رحمهما الله- في مزرعته، إمّا راعيًا للغنم أو ساقيًا للزرع، أو سانيًا للماء!
* * *
* وجاءت الهجرة الثالثة إلى الطائف بعد أن أدركت اليقين أن العيش في أبها رغم نعيم حنان والدتي لم يعدْ محتَملاً، فقد مَللْتُ الفلاحةَ في المزرعة وشقاء (القفار) راعيًا للغنم ومرةً أخرى قررتُ أن أبدأَ هجرةً جديدةً إلى الطائف بحثًا عن أبي -رحمه الله-، في عربة بريد أكل منه الزمنُ حتى عافه!
* وللحديث صلة..