وبارك الله في الأرض التي ضمنت
أوصاله وسقاها باكرُ الديم
بينما كنت أُسرح طرفي في صحيفة «الجزيرة» إذا بخبر وفاة الشيخ مقبل بن الشيخ محمد بن صالح المقبل -رحمه الله- وكان لذاك النبأ وقع محزن جداً في نفسي وفي نفوس جميع أسرته ومحبيه، الذي أديت صلاة الميت عليه بعد صلاة عصر يوم الجمعة 19/2/1441هـ بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الواقع في حي الخليج بمدينة بريدة بالقصيم.. وقد ضاق المسجد بجموع غفيرة بالمصلين رجالاً ونساء..، داعين المولى له بالرحمة، وإضاءة جَدَثِه إلى قيامه ليوم الحساب إلى دار النعيم المقيم بفضل الله ورحمته. وكانت ولادته -رحمه الله- في نجران في شهر محرم 1357هـ حيث كان والده قاضياً في تلك المنطقة بأمر من جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- خلفاً للشيخ عبدالمحسن الخريدلي وبعد بلوغه سن السابعة بدأ القراءة على الشيخ المقرئ حمد بن عبدالله العويد، ثم أكمل القرآن الكريم على الشيخ عبدالرحمن بن صالح المطلق، وكانت وسائل الكتابة في ذلك الزمن لوحاً خشبياً، والأقلام من أعواد الشجر تكون مدببة وتُبرى أطرافها -فالحاجة أم الاختراع كما يقال-، فإذا حفظ الطالب ما كتبه في اللوح مَسحه، وهكذا حتى يختم القرآن كاملاً إن أمكنه ذلك..، فظل الشيخ مقبل بن محمد ملازماً لعدد من العلماء والمشايخ الذين كانوا يشجعون الناس على الانضمام بحلق المساجد والقراءة على العلماء، وعلى رأسهم والده فضيلة الشيخ محمد بن صالح المقبل، لندرة وجود المدارس النظامية -آنذاك- مما أكسبته ثقافة دينية، ومكانة اجتماعية أهلته لاحقاً إلى تسنم مناصب هامة ومشرفة، وقد قرأ على والده تغمد الله الجميع بواسع رحمته عدداً من كتب الحديث والتفسير والتاريخ، ومن أشهرها البداية والنهاية, وتفسير القرآن الكريم لابن كثير، ولقد أجاد الشاعر القائل:
عليك بأرباب الصدور فمن غدا
مُضافاً لأرباب الصدور تصدرا
وفي عام 1380 هـ انتقل إلى مدينة الرياض للعمل برئاسة تعليم البنات، ومكث فيها ما يقرب من تسعة أعوام، وكانت فرصة للتعرف عليه عن قرب، ودخول منزل والده فضيلة الشيخ محمد بن صالح المقبل للسلام عليه..، وكان الشيخ مقبل يقضي مدة فراغه مع عدد من الشباب والرفاق أجمل الساعات وأحلاها، وما يجري فيها من تبادل الزيارات فيما بينهم، وما يتخلل تلك الأمسيات من مداعبات خفيفة، وطرائف جميلة تحلي المجالس..، أذكر منهم على سبيل المثال: الصديق زميل الدراسة بالكتّاب لتحفيظ القرآن الكريم عبدالله بن محمد المشعل، وشقيقي عبدالله بن عبدالرحمن الخريف - رحمهما الله -، والأستاذ عبدالله بن عبدالرحمن بن إبراهيم المبارك، أحد موظفي الرئاسة لتعليم البنات، والأستاذ الزميل محمد بن علي الخميس، والأستاذ عبد الكريم الشدوخي وغيرهم من الأحبة، وتبقى صدى تلك الأيام الحلوة ذكرى خالدة في نفوس من بقي منا:
وياظل الشباب وكنت تندى
على أفياء سرحتك السلام
بعد ذلك انتقل الشيخ مقبل إلى إمارة القصيم وكيلاً، وظل في تلك المنطقة عدداً من السنين، ثم انتقل إلى منطقة حائل وكيلاً للإمارة هناك، وكان مَرِناً ومخلصاً في جميع الأعمال المنوطة به، ومحبوباً لدى الأميرين الكريمين: أمير القصيم، وأمير حائل في تلك العقود الفارطة، ثم عُمّدَ رسمياً للعمل قائماً بعمل أمير منطقة جيزان مدة شهرين أثناء إجازة الأمير، كما تم تكليفه أميراً لمنطقة تبوك في الفترة الواقعة بين إمارة أصحاب السمو الملكي الأميرين عبدالمجيد بن عبدالعزيز -رحمه الله-، والأمير ممدوح بن عبدالعزيز -حفظه الله-، مع شكره الجزيل للأمراء على ثقتهم به ورضاهم عنه، حامداً المولى على توفيقه وتسهيل عمله في المواقع المشرفة، ثم طلب الإحالة للتقاعد عام 1410هـ, وتم له ذلك، كما لا أنسى دعوة شقيقه الأستاذ عبدالله (أبو محمد) لحضور مأدبة الغداء المقامة تكريماً لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين في بلدهم محافظة المذنب منذ سنوات طويلة, الذي يُعد من الزملاء عام 73 أو 74 في المعهد العلمي بالرياض -رحمه الله رحمة واسعة- فكل أسرة آل مقبل أخيار كرام ولقد أحسن القائل:
ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه
فلا تكتسب بالمال شيئاً سوى الذكر
فقد أبلت الأيام كعباً وحاتِماً
وذكرهما غض جديد إلى الحشر
ولئن غاب عن أبصارنا الشيخ مقبل بوفاته، فإن ذكرياتنا الجميلة معه ومع أخيه عبدالله الذي كان التواصل بيننا وبينه باقية في خاطري مدى العمر، -تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته-، وألهم ذويه وأخوته وأخواته وأبناءه وبناته وزوجاته، ومحبيه الصبر والسلوان.
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء