د.عبدالله مناع
كان (واجباً) أن أكتب عن الأستاذ «عبدالفتاح أبو مدين»، وعن حياته في الصحافة والثقافة والأدب.. لا يسقط وإن تأخرت عن أدائه لبضعة أيام أو أسابيع.. وفقاً لـ(أجندتي) القلمية وأولوياتها فيما أنشره أسبوعياً في صحيفتنا العزيزة (الجزيرة)، لأن حياة (أبو مدين) في الصحافة تمثل جزءاً من تاريخ الصحافة في المملكة.. كـ(حياته) في (ثقافة) بعد قيام أول أنديتها الثقافية الأدبية في جدة على يدي مؤسسيه الأستاذين: محمد حسن عواد وعزيز ضياء.. بترؤسه له لمدة خمسة وعشرين عاماً.. تمثل جزءاً من تاريخ حياتنا الثقافية المعاصرة.. أما حياته في (الأدب) الذي دخل عالمه عبر بوابة (النقد الأدبي).. بنقده شعر وشعراء تلك المرحلة.. فإن (عصاميته) التي علّم بها نفسه، وثقف بها ملكاته الأدبية كـ(الأستاذ عباس محمود العقاد) والتي جعلته ينقد شعر كبار الشعراء في بداياته، ثم يروي -فيما بعد- قصة حياته.. أو قصة حياة (الفتي مفتاح) بمعاناتها وقلتها بصورة (درامية) لا يستعطيها إلا المجيدون من كتّاب الرواية.. لأنها تستحق الوقوف عندها، والإشادة وتذكير الأجيال الصاعدة بها.!.
* * *
فبعد انتقاله من المدينة المنورة إلى جدة، واستيفاؤه لدروسه النظرية في اللغة والأدب على يد الأستاذ الشاعر محمود عارف الذي كان في بداياته (مدرساً) بمدارس الفلاح.. جرياً على عادة المدارس في تعيين النابهين -من خريجيها- كمدرسين بالمدارس.. كما كان شأن (العواد) و(الشحاتة) و(القنديل) من قبل.. الذين تحولوا إلى «مدرسين» بالمدارس بعد تخرجهم.. ليصبحوا -فيما بعد- أعلاماً في الأدب والشعر.. بدأ الأستاذ أبو مدين حياته الوظيفية بالعمل في إدارة (الجمارك)، وهناك تعرف بالأستاذ «محمد سعيد باعشن»، الذي كان يعمل في مكتب وزير التجارة الأول الشيخ محمد عبدالله على رضا زينل.. والذي سيصبح -فيما بعد- سفيراً للمملكة في (القاهرة) فـ(باريس).
ويبدو أن ميول (الباعشن) و(أبو مدين) لـ (الصحافة) وحبهما لها.. قد قرب بينهما إلى أن اتفقا على إصدار صحيفة أسبوعية جديدة باسم (الأضواء)، يتولى (الباعشن) رئاسة تحريرها، ويتولى إدارتها (أبو مدين).. فتقدما إلى المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، التي كان يرأسها وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء آنذاك الشيخ عبدالله بلخير.. فـ(أذن) لهما بإصدار الصحيفة السادسة بالمملكة آنذاك.. بعد (البلاد) في مكة واليمامة في الرياض وأخبار المنطقة الشرقية في الظهران والمدينة الأسبوعية في المدينة المنورة، فـ(شكلا) مجلساً لتحريرها يتكون من نخبة من الأدباء والشعراء والكتّاب -مع حفظ الألقاب- كـ(العواد والعارف والدكتور محمد سعيد العوضي المحامي ولطبيب الدكتور عارف قياسه والقاص أمين سالم رويحي).. ليتوالى صدور أعداد الجريدة بسلام وانتظام مع رغبة مجلس تحريرها في التوسع الذي قاد إلى إصدار سلسلة شهرية هي (كتاب الأضواء) التي صدر عنها: ديوان (المزامير) للشاعر الأستاذ «محمود عارف»، وكتاب في النقد الأدبي هو (أمواج وأثباج) للأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، ومجموعة قصصية بعنوان و(الحنينة) للأستاذ أمين سالم رويحي، الذي سيصبح فيما بعد واحداً من أبرز كتّاب الفكاهة والسخرية في الباب الذي أخذ يحرره فيما بعد في صحيفة (المدينة) أيام رئاسة تحرير نجم صحافة الستينات آنذاك الأستاذ محمد علي حافظ.. لكن الجيشان الذي كانت تعيشه منطقة الشرق الأوسط في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي ضد الاستعمارين البريطاني والفرنسي أدى إلى درجة عالية من الحساسية في نشر الأخبار والمقالات والتحقيقات الصحفية مما.. أوقع صحيفة (الأضواء) في بعضها مما أدى لـ(إيقافها) ومنع رئيس تحريرها من الكتابة، وإيقاف سلسلة الأضواء الشهرية معها.. بطبية الحال.
* * *
ولكن بعد أن برّدت الحديدة كما يقولون.. وقد نجا مدير إدارة الأضواء السابق (أبو مدين) من تلك العقوبات التي لحقت بـ(الجريدة) بحكم مسؤوليته عن (الإدارة) وليس عن (التحرير).. تقدم الأستاذ (أبو مدين) من الشيخ عبدالله بلخير بطلب الإذن له بإصدار (مجلة) أسبوعية اجتماعية ثقافية باسم (الرائد).. فأذن له، ليقوم بتأسيس مكتب جديد لها بإحدى عمائر بن محفوظ على طريق مكة المكرمة، ويدعو بعضاً من أعضاء مجلس تحرير (الأضواء) السابق للانضمام إليه.. ليكونوا أعضاء في مجلس تحرير المجلة الجديدة (الرائد).. مع تعيين الزميل والصديق العزيز (عبدالعزيز فرشوطي) سكرتيراً لتحريرها، والأستاذين حمدان صدقة حمدان ومحمد رجب مشرفين على الصفحات الفنية بـ(المجلة).. ليتوالى صدور المجلة - بعد ذلك بانتظام.. إلى أن أصدر الملك فيصل بن عبدالعزيز -ولي العهد آنذاك- قراره برفع الرقابة عن الصحف معلناً ثقته، بـ(الصحفيين).. واطمئنانه لصادق نواياهم فيما يكتبونه ويعبرون عنه، ولتأكيد ذلك أصدر قراره بتعيين الأستاذ عبدالله عريف -رئيس تحرير البلاد- أميناً للعاصمة، وكأنه أراد أن يقول: أرنا همساتك النقدية التي كنت تنتقد بها أحوال (العاصمة) وشوارعها وميادينها على أرض الواقع، ليفتح قرار الأمير برفع (الرقابة).. الأبواب أمام (الشيخ عبدالله بلخير) ليمنح الصحفيين الراغبين في إصدارات جديدة ما يتمنونه.. فكان أن صدرت مجلة (قريش) للسباعي في مكة إلى جانب (ندوته) الأسبوعية، وصحيفته (عرفات) لحسن عبدالحي قزاز في جدة، ومجلة الأسبوع التجاري للأستاذ عبدالعزيز مؤمنة ومجلة (الجزيرة) للشيخ عبدالله بن خميس.. لتعيش صحافة الأفراد عصرها الذهبي في تلك المرحلة من نهايات الخمسينات وبدايات الستينات الميلادية من القرن الماضي.
في هذه الأثناء.. شرفت في إحدى إجازاتي الجامعية الصيفية بزيارة مكاتب مجلة (الرائد) للسلام والتعرف على أسرة تحريرها.. فكان أن استكتبني الأستاذ أبو مدين لـ(مجلته) من الإسكندرية فكتبت فيها.. ليبدأ عمراً مشتركاً لا ينسى مع الفارق في السن مع الأستاذ أبو مدين.. إلى أن توقفت (الرائد) عن الصدور مع صدور نظام المؤسسات الصحفية الجديد، الذي ألغي «صحافة الأفراد»، وأقام بديلاً لها «صحافة المؤسسات» نظراً.. لغياب صاحبها (أبو مدين) في لندن لدراسة اللغة الإنجليزية بها، وعدم تقديمه لطلب إنشاء مؤسسة صحفية تتولى إصدار (الرائد)، وقد توقفت معها (عكاظ الأسبوعية) لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار.. لذات الأسباب.. إلا أنه استطاع أن يتدارك غيابه فيما بعد.. ويلحق بالركب لتصدر (عكاظ) اليومية، وتواصل مسيرتها إلى يومنا هذا.. أما (الرائد) فقد توارت تماماً، ولم يبق منها غير الأثر الذي أحدثته في حياة الناس ومجتمعها، وذكريات ندواتها الليلية التي كانت تضم شبيبة الصحافة الواعدة آنذاك من أمثال الأساتذة: علي العمير وعلي القرعاوي وعلوي الصافي وهاشم عبده هاشم وعلى خالد الغامدي.. وغيرهم.
* * *
عندما عاد الأستاذ (أبو مدين) من رحلته الدراسية فى لندن.. كانت الطيور قد طارت بأرزاقها كما يقولون، وقامت مؤسسات العهد الجديد: البلاد والمدينة والندوة وعكاظ واليمامة والجزيرة واليوم.. ليحيط به فراغ امتد به بعض الوقت، ولم يخرجه منه إلا صديقه الحميم الأستاذ محمود عارف عندما تنازل له عن بعض أسهمه في مؤسسة عكاظ، ليصبح عضواً فيها.. فيجده منقذ عكاظ الأستاذ على شبكشي.. أمامه، ليسند إليه الإشراف التحريري على عدد عكاظ الأسبوعي.. لتأتيني الفرصة -على المستوى الشخصي- فيما بعد لكسبه خلفاً للأديب والقاص السيد يس طه في إدارة مؤسسة البلاد بعد أن قدمته لمعالي السيد عبدالله الدباغ مدير عام المؤسسة ورحب به لخلافة السيد يس طه في إدارتها.
لكن الظروف.. كان تخبئ له -فيما بعد- ما هو أفضل.. من خلال عضويته في مجلس إدارة نادي جدة الأدبي الثقافي أيام رئاسة الأستاذ الشاعر حسن عبدالله القرشي له، ونيابة الدكتور عبدالله زيد مدير عام التعليم بمنطقة جدة.. عندما تم اختيار الأستاذ القرشي ليكون سفيراً للملكة في العاصمة السودانية الخرطوم، ولم يجد الدكتور الزيد متسعاً من الوقت ليحل محل الأستاذ القرشي في رئاسة النادي.. فكان أن رشح الأستاذ أبو مدين لرئاسة النادي، وقد كان.. ليتألق النادي في خدمة أدباء المملكة والتعريف بهم.. وفي الانتصار لـ(الحداثة) وفكرها، وقد ساعده في مهمته عدد من الأدباء الأكاديميين حقاً كان في مقدمتهم الدكتور حسن النعمى والدكتور عبدالله الغذامي والدكتور سعيد السريحي.. فكان نجاحه سبباً في (التمديد) و(التجديد) له حتى أتم خمسة وعشرين عاماً.. ليترجل بعدها موفور المحبة والتقدير له من أعضاء النادي ورواده من الأدباء والمثقفين.. ليموت -بعد ذلك- وهو في الرابعة والتسعين من عمره.. راضياً قانعاً بما قسمه الله له من دنياه، التي عاشها مؤمناً صبوراً شجاعاً.. لا يبقى لنا في وداعه غير الدعاء له بالرحمة والغفران.. فوداعاً أبا مدين.. فوداعاً أبا وديع.