د. أحمد الفراج
هناك قناعة لدى كثيرين بأن المجتمعات الغربية متجانسة، أي أنها مجتمعات متقدمة، ومتحضرة، فعلى سبيل المثال، لفت نظري أن البعض يستغرب عندما يستمع إلى بعض الحكايات عن «الأمية» في بعض الدول الأوروبية، أو حتى في الولايات المتحدة، أو عن الجهل المطبق الذي يحيط بمناطق نائية في تلك البلاد، فمن عاش في أمريكا، وسافر في أرجائها الشاسعة يرى عجبًا، فهناك مناطق ريفية في معظم الولايات لم يسافر كثير من سكانها خارج نطاق مجتمعهم المحلي، إما لظروف الفقر، أو الرغبة في العزلة، وعندما يتحدث بعض سكان تلك المناطق عن نيويورك مثلاً، أو لوس أنجلوس، فإنهم يتحدثون عنها كمدن «خرافية» يحلمون بزيارتها، مع أنها لا تبعد عنهم أكثر من ساعات قليلة!
من ضمن تلك الجماعات المعزولة في المجتمع الأمريكي طائفة «الآمش» المسيحية، المتدينة جدًا، وهي طائفة هاجر أوائل المؤمنين بها من أوروبا، وتحديدًا سويسرا وألمانيا، وذلك في منتصف القرن السادس عشر، واستوطنوا بعض المناطق في عدة ولايات، من أبرزها بنسلفانيا، وأوهايو، وإنديانا، وهم يعيشون حتى اليوم على نمط واحد في مناطق زراعية!، إذ إنهم يكرهون المدنية بكل أشكالها، وما زالوا حتى اليوم يستخدمون الخيل كوسيلة للنقل، ويسكنون في منازل بدائية تخلو من وسائل الترفيه، ودون كهرباء، فهم يطبخون على الحطب، وتلبس نساؤهم الملابس الفضفاضة، التي كانت تلبسها المرأة الأوروبية في العصور الماضية، أما التعليم فإن كثيرًا منهم لا يحرص عليه، وهناك مدارس خاصة بهم، تشبه الكتاتيب عندنا، وقلة منهم يرسلون أبناءهم إلى المدارس لتعلم القراءة، والكتابة فقط، ثم يتوقفون بعدها عن طلب العلم، وغالبًا ما يكون ذلك في سن الرابعة عشرة، أي يتوقفون عند منتصف المرحلة المتوسطة!.
وقد واجهت الحكومة الأمريكية مشكلة في رفض «طائفة الآمش» للتعليم، وعدم دفعهم للضرائب، لأنها ترى أن من واجبها كحكومة -تعد الأكثر تقدمًا على مستوى العالم- أن تعلم مواطنيها، ولكن المحكمة الأمريكية العليا، وهي أعلى سلطة قضائية، حكمت لصالح الآمش، مستندة على المادة الأولى من الدستور الأمريكي العريق، التي تنص على حق «الحرية» للمواطن الأمريكي!، ولذا فقد تم حل هذه المشكلة التي أرقت الحكومات الأمريكية المتعاقبة لعقود طويلة، أما بالنسبة للضرائب فقد تمت معالجتها بما يحفظ حقوق كل الأطراف، كما تم إعفاء «الآمش» من تسجيل المركبات الخاصة بهم، التي هي الخيل وما يماثلها من وسائل النقل البدائية!، وما زال «الآمش» يعيشون بسلام ووئام مع أنفسهم، ومع العالم المحيط بهم، ولا يضايقهم أبدًا أن السياح يدلفون إلى مناطقهم للفرجة على أسلوب حياتهم البدائي، فهم يعتقدون أنهم أكثر سعادة من هؤلاء السياح القادمين من المدن الأسمنتية على متن السيارات، والطائرات الفخمة. فمن منكم يتمنى أن يعيش حياته كما هؤلاء «الآمش»؟!.