د.عبد العزيز الصقعبي
«الحافلة الصفراء.. تمخر عباب الصحراء»، قلت ذلك لصديقي الذي يجلس بجانبي في الباص المغادر من الرياض متجهاً إلى المنطقة الشرقية، أعجب بكلامي، ولكنه قال ذلك ليس بشعر، قلت هذا كلام منمق، حديثي مع صديقي كسر حاجز الصمت المخيم على الحافلة الجامعية الذي لا يقطعه إلا هدير محرك السيارة، الجميع استسلم لطول ورتابة الطريق، والظلام المخيم داخل وخارج الحافلة باستثناء ذلك الضوء الباهت التي تبثه أنوار السيارة الأمامية والخلفية، كنا في سنواتنا الجامعية الأولى، وكان ذلك في أواخر السبعينات الميلادية، لم يطل القرن الهجري الجديد بعد.
كنا مجموعة من الطلبة لا أعرف أغلبهم، وكانت رحلة طلابية من الرياض حيث مقر الجامعة إلى شرق المملكة، طريق اسفلتي واحد بمسارين من وإلى الرياض، لذا لا مجال للسرعة فيه، فهو خط ممتد أسود يصارع زحف الكثبان الرملية، تذكرت أغنية سعد إبراهيم «فوق الرمال الحمر.. طابت لنا السهرة» أردت أن أترنم بكلماتها، لكن لاحظت الوجوم المخيم على الجميع فوأدت الفكرة، حرارة الجو «ربما» جعلتهم يختارون السير في الليل، الحافلة غير مكيفة، والمساء ألطف جوا، ولكنها الصحراء، قدرنا، لا أدري لماذا لم ينزح أجدادنا شمالاً، حيث الخضرة والأمطار والثلوج، نحن نعرف البرد.. الصقيع ولكن لا نعرف مطلقاً الثلوج، نحن نعرف وهج الصحراء وسمومها، لقد استطعنا أن نجعل من متاهاتها متعة، اقتنصنا اللحظات الجميلة في ليلها، تأملناها في الربيع، وتغزلنا بها، لست ابن الصحراء ولا علاقة لي بالبدو الرحّل، جئنا شأني شأن صديقي وأغلب الطلبة من مناطق زراعية لذا فنحن ربما أقرب لأن نكون من أبناء الريف أو الجبال، ولكن الصحراء قدرنا، لأنها تحيط بنا من جهات مختلفة.
التزمنا الصمت أنا وصديقي، الليل طويل والحافلة تسير، والجميع يمارسون الصمت أغلبهم استسلم لغفوة قصيرة، وآخرون يفكرون أو يحلمون، وأنا أفكر بمشروع قصيدة، لأقنع صديقي أنني شاعر، لا أستطيع أن أتجاوز الكلمات الخمس التي ذكرتها له، هل أصف الحافلة أم الصحراء، أعرف أن كل الكلمات المحيطة بها، وبنا، جافة، قاحلة، مثلنا، نحن جميعاً رجال، ذكور، ولكن في داخل رأس كل منا عشرات النساء، كلنا جبناء، لا أحد يستطيع أن يبوح أو يتحدث عن علاقاته النسائية، فكرت أن أبادر صديقي بسؤالي «هل أحببت»، لكنني تراجعت، خوفاً من سؤاله «لماذا تسأل» أو «ما هي مناسبة سؤالك» لذا آثرت الصمت والتفكير، بالطبع كل ما حولي ظلام ونحن داخل سيارة متجهة إلى الشرق، أجلس في أحد مقاعد الوسط، على المقاعد الأمامية خلف السائق يجلس المشرف على الرحلة، وهو رجل ملتزم، وثلاثة من هيئة التدريس من جنسيات عربية مختلفة، لا أعرفهم، رحلة تشبه إلى حد بعيد الرحلات السياحية في العالم، حيث يكون الناس مقسّمين إلى مجموعات، وهذه المجموعات لا علاقة لها ببعض، العلاقة الوحيدة التي تربطهم، هي الرحلة، بالنسبة لنا فجميعنا من جامعة واحدة، ولكن تخصصاتنا مختلفة، فلا تجمعنا قاعة دراسية واحدة، أردنا المشاركة برحلة إلى المنطقة الشرقية مقابل رسوم مالية بسيطة، سائق الحافلة بالخمسين من عمره، هو المؤذن والمشرف على الرحلة هو الإمام، ذلك السائق لا يتحدث كثيراً، يؤدي عمله بإخلاص، هو لا يحب الطرق الطويلة، ولكن لم يعترض على ترشيحه لقيادة الحافلة المتجهة إلى المنطقة الشرقية، وذلك للحصول على مبلغ مالي يساعده على إعالة أسرته الكبيرة، لا أعرف اسم السائق ولكن علمت ذلك من بعض الأصدقاء.
أكتب هذه الكلمات بعد أربعين عاماً تقريباً، لا أتذكر إلا الخمس كلمات التي قلتها لصديقي، وكذلك لا أتذكر إلا بعض الأحداث التي حصلت عند وصولنا للمنطقة الشرقية، الدمام، الخبر، وهي باهته، أو ما خلدته بعض الصور بالأبيض والأسود، التي نجا بعضها من التلف، «الحافلة الصفراء.. تمخر عباب الصحراء» هي كل ما أتذكره، حتى الصديق، فقدته منذ سنوات طويلة، هل الخلود فقط للكلمات.