سهام القحطاني
من الحظ السعيد أن تلتقي في بداية طريقك الثقافي بأناس يمنحونك نافذة ضوء وصوت، وليس الحظ مقصورا على «فرصة الإطلالة» بل «فرصة التعلم» وهي الأهم لأنها هي التي تصنع مكتسبات خبرتك وخاصة عندما يكون مصدر تعلّمك مدرسة ثقافية عريقة الجذور والتجارب مثل عبدالفتاح أبومدين -رحمه الله-، لقد أُتيحت لي الفرصة للتعرف على «الأستاذ» بكل ما يحمله هذا الوصف من دلالات وقيم.
«عبدالفتاح أبو مدين» المثقف في أكمل صورة والذي تعلّمنا منه الرقي السلوكي قبل الفكري، التواضع الحقيقي الذي تكتشف فيما بعد أنه جزء من أسلوب حياته، الذي تتعلم منه مبدأ أن كلما تجذرت قيمة المرء التاريخية زاد اندماجه مع الآخرين واتسعت أفق احتوائه لهم.
كان هدوؤه الإنساني والفكري والأسلوبي مصدر سحر شخصيته، فهو يقدم لك فكرته دون ضجيج الاختلاف وجدل تكسير العظام؛ ليُعلّم الجميع أن كلا يملك حق الإيمان بصواب فكره.
لقد آمن الأستاذ بالحرية الفكرية والتجديد الأدبي والثقافي ولذا كان الراعي الثقافي الرسمي «لحركة الحداثة» والداعم لصوت الدراسات المتفرعة منها.
وهذه الشجاعة الفكرية التي قلما يتصف بها المسؤول الثقافي هي التي صنعت رمزية الرائد للأستاذ، وتلك الشجاعة الفكرية هي اليوم التي تُطرّز سيرته التاريخية؛ ولذا أصبح نادي جدة الأدبي الثقافي في مرحلة من المراحل وملتقى النص أيقونة ثقافية للفكر الحر والتجديد الأدبي والثقافي ليتفوق على جميع الأندية الأدبية في السعودية -لكنها للأسف أيام مضت فأضاع الخلف ما أسسه السلف-!.
إن الريادة الثقافية التي سجلها النادي في عصره الذهبي كانت بفضل ما امتلكه الأستاذ -رحمه الله- من منهج فكري واستراتيجية ثقافية نهضوية أسسهما وقبلهما قدرته على امتلاك رؤية ثقافية استشرافية تتجاوز النمطية الكلاسيكية، فمهما توفر من تمكين لشخص وهو لا يملك رؤية ثقافية فلن يقدّم أي إنجاز تاريخي؛ ولذلك فشل كل من جاء بعد الأستاذ لرئاسة النادي الأدبي في جدة في صناعة إنجاز تاريخي، والاكتفاء بإخراج المشاهد الثقافية.
وسيظل الأستاذ أيقونة معيار الإنجاز والريادة لكل من يتولى قيادة النادي.
ورغم التاريخ الثقافي العصامي للأستاذ -رحمه الله- والرمزية الثقافية التي تحيط به فقد كان يؤمن «بالعمل الجماعي والفكر الجماعي» فمكانته لم تخلق داخله «وهم الديكتاتورية» وهذا سر محبة المثقفين له فهو يتبنى كل الأفكار الحية التي تحمل قيما إضافية سواء أكانت من مثقف رائد أو مثقف مخضرم أو مثقف شاب.
فقد آمن بالأصوات الثقافية الشبابية وفتح لها باب النادي ثم ملتقى النص في حين أن الأندية في زمنه كانت تلهث وراء الاسم وليس الفكرة التي تحمل قيمة إضافية وهذا ما خلق ريادة النادي الأدبي في جدة في فترته الذهبية عندما كان الأستاذ يعتلي هرمه وجعله منبرا للتجديد الأدبي والثقافي.
لقد كان النادي في ظل رعاية الأستاذ منبرا لكل الأصوات الثقافية باختلاف تياراتها الفكرية، في حين أن بقية الأندية الأدبية في تلك الفترة كانت تُرسّخ لأحادية الصوت الثقافي.
وهذه الثقافة الانفتاحية التي تميّز بها الأستاذ كانت نتيجة طبيعة ثقافته الشمولية المؤمِنة بثراء الاختلاف في التجديد الفكري، ونتيجة لخبرته وتجربته الحياتية التي قصها لنا في حكاية الفتى مفتاح، فكلما تنوعت تجارب الإنسان وخبراته زاد إيمانه بقيمة الاختلاف.
عندما تتحدث عن رقي رجل وإنسانيته العظمى، فمقياس تأكيد هذا الاعتبار هو «موقفه من المرأة»، فمن المألوف أن يساند الرجل الرجل، لكن أن يُساند الرجل «صوت المرأة وفكرها والرهان على توجيدها الحيوي» فهذا أمر يخالف المألوف وفق واقعيته، لا وفق أصله.
لقد آمن الأستاذ بصوت المرأة الثقافي في فترة كان الأعم الأغلب يراه «عورة،» وآمن بوجودها الفكري في حين أن الأعم الأغلب في تلك الفترة كان يراه «فتنة»، وكان إيمانه ذلك ريادة لرسمنّة وجود المرأة الثقافي في السعودية، لقد كان قدره أن «يكون رائدا أينما اتجه».
وعلى المستوى الإنساني فقد كان الأستاذ -رحمه الله- حنونا ورقيقا ولديه قدرة عجيبة على الاحتواء، ويُجيد الاستماع إليك، ورغم موسوعته الثقافية لا يحاول أن يستعرض عضلاته الثقافية؛ لأن القيمة تُعرف بالاكتشاف لا بالإعلان.
لقد آمن الأستاذ بالجميع وقدّرهم، فأحبه الجميع وقدروه.
إن المثقف الحقيقي هو الذي عندما يغادر قطار الحياة تتنفس محطات مروره بعبق أخلاقه وتُضيء بإنجازاته لتتحول إلى مزار ثقافي، هذا الدرس الذي تعلمنا من وداع «الأستاذ» الساحر عبدالفتاح أبو مدين رحمه الله وغفر له وأدخله فسيح جناته.