«الجزيرة الثقافية» - محمد هليل الرويلي:
وأشاروا يا أعرابي: هُناك بعض من الباحثين والكاتب المهتمين بشأن الدول الأفروعربية، والعديد من المراجع التاريخية، والدراسات والبحوث التي تناولت الحضارات القديمة في هذه المنطقة بإفريقيا، شككوا بأن وجود اللغة العربية في إرتريا ضارب في القِدم ومُمتد لعصور.. منوهين: إنها ضمن العُمق العربي جُغرافيةً، وترتبط بوشائج قوية تاريخية وسياسية بالمنطقة، كما تمتلك بلادنا أطول ساحل على البحر الأحمر، وهذا جانب قد يُبرهن ما ذهبنا إليه، إضافة إلى أنها كانت ضمن الفتوحات الإسلامية كشاهد تاريخي على ارتباطها بالهجرات السكانية وما صاحب ذلك من انتشار اللغة العربية والدين.
فشعبنا الإرتري يا أعرابي، مكون من أعراق مُتعددة يعود بعضها من الجزيرة العربية، وعلى الرُغم من وجود لهجات محلية إلا أنها تجد في ثناياها مُفردات عربية فُصحى تدل على وجود ارتباط لصيق باللغة العربية تغيرت مع مرور الزمن وتحولات التاريخ وحلت محله لهجات محلية بفعل الانصهار، لكن ظلت اللغة العربية لغة التواصل بين المسلمين الذين يُشكِّلون غالبية سُكان إرتريا ويقطنون مُعظم أقاليمه..
وفي هذا الملف سنقدم لكم جوانب من أدبنا الإرتيري المكتوب باللغة العربية، ونفصل في نشأة خطابنا الأدبي المعاصر المكتوب باللغة العربية شعرًا، وقصة، ونتناول موضوعات رئيسية تمثلت في الحرب وتأثيرها على واقعنا الاجتماعي، إذ يمكننا القول إن جل خطابنا الأدبي الإرتري العربي المعاصر قد أرّخ لتلك الحرب، واستنادًا إلى ذلك فإنه بوسعنا تقسيم الخريطة الأدبية الإرترية العربية المعاصرة إلى مفاصل من «واقع الحرب من الداخل وأرض المعارك» من خلال نصوص، أغلبها لأدباء مقاتلين، كما أن هناك خصوصية أخرى، لدى معظم كُتّابنا الإرتريين، تتمثل في إيغالهم في المحلية، وعكسهم للعناصر المكونة لهوية بلادنا، بأبعادها الإفريقية والعربية، كما أن معظم الأدب المكتوب بالعربية مصبوغ بأثر وصعوبات مرحلة الكفاح المسلح، وفي الوقت ذاته نجدها مسكونة بهاجس الحرية - أخيرًا - مما يجدر ذكره في هذا المقام: إن أدبنا الإريتري متعددة لغاته المحلية مثل «التغرينية، والبلين، والساهو، والعفر، إلى جانب اللغة العربية».
الأدب الإرتري بين براثن الشفوية
وعشب الحداثة
أوضح القاص والمهتم بالشأن الأدبي الأفرو عربي المقيم في أستراليا «عادل القصاص» أنه عند محاولة الحديث عن الأدب الإرتري المكتوب باللغة العربية، من حيث هو أحد مفاصل مظاهر الثقافة العربية في إرتريا لابد من الإشارة مبدئيًا إلى آليّات الظروف التاريخية الموضوعية التي ساهمت في توطين وتوطيد الثقافة العربية في إرتريا تدريجيًا والملامسات الأولى، من الناحية الجغرافية والتاريخ. فبسبب الموقع الجغرافي المتميز لمنطقة القرن الإفريقي، ووضعها اللصيق بمنطقة شبه الجزيرة العربية، بدأت الهجرات المبكرة والمتفرقة لمجوعات من ساميي جنوب شبه الجزيرة العربية إلى مناطق الحاميين في القرن الإفريقي منذ عهود سحيقة.
وحسبما تشير إلى ذلك «المكتشفات الأثرية» في المدن المندثرة والمعابد ومحطات استراحة القوافل التجارية بين العقبة وساحل البحر الأحمر، فإنه من الراجح أن تكون تلك الهجرات قد بدأت منذ حوالي عشرة آلاف عام قبل الميلاد، فمن الثابت أن قبائل سبئية (نسبة إلى مملكة سبأ) وحميرية (نسبة إلى مملكة حمير) من اليمن عبرت البحر الأحمر عن طريق باب المندب و»جزر دهلك» وكان وجهتها مرتفعات إرتريا والحبشة. إضافة لقبائل نازحة من جنوب الجزيرة العربية اختارت المقام في الأقسام الجنوبية من مرتفعات إرتريا منها انتشر جانبًا من اللغة المحلية، وثمة قبائل استقرت في «إقليم تقري» بالحبشة. وفي ربوع هذا الإقليم المجاور لإرتريا قامت «مملكة أكسوم» المعروفة في التاريخ.
وأضاف: وكان من أسباب تلك الهجرات المبكرة ما هو متعلق بالتجارة، وما هو متعلق بالبحث عن المعادن «خصوصًا الذهب» وما هو متعلق بالهرب من الحروب. لقد جلبت هذه القبائل معها كنوزًا لا تقدر بثمن من التراث الأصيل ومعالم حضارة عريقة متمثلة في اللغة المكتوبة والمهارات الزراعية المتقدمة والأساليب المتطورة للتحكم في مياه الأمطار عن طريق إنشاء المدرجات الزراعية على سفوح الجبال وزراعتها بالمحاصيل والأشجار. وحملوا معهم فنونهم المعمارية وبراعتهم في النحت على الحجر وبناء السدود الضخمة الثابتة. جاءت إلى أرض البجة في القرن السادس للميلاد، أي قبل ظهور الدعوة الإسلامية.
وتابع: كانت تلك الهجرات المبكرة المتفرقة، هي الملامسات الأولى التي أدت تدريجيًا إلى التمازج العرقي الثقافي الديني اللغوي بين حاميي جنوب شبة الجزيرة العربية وبين حاميي منطقة القرن الأفريقي بنسب متفاوتة من منطقة إلى أخرى. على أن منطقة الهضبة الإثيوبية (أثيوبيا - إرتريا) كان حظها أوفر من ذلك التمازج. ومن شواهد ذلك ما هو جليّ في لون بشرة سكان هذه الهضبة. وفي العديد من ملامحهم وعاداتهم بالإضافة إلى لغتهم الإمهرية في أجزاء واسعة من أثيوبيا في «إقليم التقري» في منخفضات إرتريا وفي مناطق من الساحل الإرتري للبحر الأحمر.
الثقافة الشفوية امتزاج وتأثير
وقال القاص «عادل القصاص» مفصلًا تأثير الثقافة الشفوية على الأدب: بيد أننا نرى الثقافة العربية الإسلامية التي امتزجت بثقافة سكان هذه المنطقة وأثرت بها، ومن ثم حققت ذلك الانتشار الواسع، كانت ثقافة شفوية، وذلك عائد في تقدرينا إلى أن الثقافة العربية الإسلامية التي كانت وما تزال سائدة في المنطقة العربية هي ثقافة شفوية، والأدب العربي الذي كان سائدًا، من حيث هو أحد مفاصل الثقافة العربية هو (سليل الشفوية الجاهلية) بامتياز، انحدرت من الأدب الجاهلي وظلت طاغية إلى اليوم. «شفوية الشعر الجاهلي» قد قنن وقعّد لها نظريًا من قبل نقاد أتوا بعد العصر الجاهلي، خلال القرون الثلاثة الأولى لنشوء الإسلام، ومن ثم ساد ذلك التقنين والتقعيد بوصفه (قواعد معيارية مطلقًا للشعرية الكتابية، بحيث لا يعد الكلام شعرًا، إلا إذا كان موزونًا على الطريقة الشفوية التي حددها الخيل، بحيث جعل من هذه الطريقة الخاصية الشعرية الأولى قواعد ما زالت سارية إلى اليوم.
فالأدب الإريتري المكتوب باللغة العربية أدب ينتمي إلى الخريطة الإبداعية الثقافية الفكرية العربية أصيب جله - في رأينا - بداء الشفوية ذاك، بجانب عامل أخرى ساهم في استقبال وغرس وتوطيد الثقافة الشفوية تمثل في «النسبة المرتفعة من الأميين» بين السكان الذين اعتنقوا الإسلام.
إضافة لكون الثورة الإرترية نفسها منذ تفجرها (1961) وعبر مراحلها المختلفة كانت تسود فيها، الثقافة الشفوية على الرغم من التزايد المتصاعد في أعداد المتعلمين من أبنائها، إذًا «فك الحرف» وحده، لا يكفى لتقهقر طغيان الثقافة الشفوية.
أغنية وحكايات شعبية وحالات
عشق رومانسية
وبين «القصاص» أن من الأدلة الساطعة على سيادة الثقافة الشفوية في إرتريا هو أن الأداة الإبداعية الأولى منذ ما قبل تفجر الثورة، مرورًا بها تكمن في الأغنية التي كانت قبل انطلاقة الثورة في أغلبها عبارة عن ملاحم ومأثورات وحكايات شعبية وحالات عشق رومانسية، وبعد انطلاقة الثورة غلب عليها الطابع التعبوي التحريضي التبشيري الجياش لاستقطاب جماهير القضية ولاستنهاض قدراتهم النضالية والصمودية، وهي جماهير كانت تسود فيها الأمية، حتى وإن جاء كتابة، لم تتأثر به الأغنية فحسب، إنما ترك أثره على سائر الضروب الإبداعية الأخرى وعلى سبيل المثال لا الحصر إن العديد من النصوص الشعرية لمحمد عثمان كجراي وبالأخص المتأخرة منها، وكل النصوص الشعرية لا أحمد سعد، والعديد من النصوص الشعرية لمحمد مدني، سيّمَا المتقدمة منها، ومعظم نصوص الشاعر عمار محمود الشيخ، وينطبق بنسبة متفاوتة على النصوص القصصية لإدريس ابعري، وحامد ضرار، صلاح سينيوس، وجمال همد، وخالد محمد طه، سيّمَا النصوص المبكرة لهذين الأخيرين، وذلك راجع دون ريب إلى هيمنة السياسي من ناحية وإلى ضمور التراكم الإبداعي الثقافي المعرفي لدى أغلب المبدعين الإريتريين المنتمين للثقافة العربية الإسلامية من ناحية ثانية.
«الشتات» سَبّب تراكم المعرفة
الثقافية والإبداعية
وأضاف: على أن ظروف وملابسات الشتات المديد التي طالت أعدادًا هائلة من الإرتريين، وقد وفرت لأعداد قليلة من المبدعين الإرتريين حالات من الاستقرار، في المنطقة العربية بشكل خاص، أدت إلى أن تتراكم معارفهم وخبراتهم المعرفية الثقافية ومعارفهم وخبراتهم المعرفية، وذلك بانخراطهم في الحياة التعليمية الثقافية الإبداعية في المنطقة العربية مما هيأ للخطاب الإبداعي لبعضهم نضجًا وأسس لاختلافه، محمد عثمان كجراي الذي وُلد ونشأ وتلقى تعلميه في السودان كان أحد الأصوات الشعرية التي أسست قصيدة الشعر الحر في السودان، ومحمد مدني الذي نشأ وتلقى تعلميه في السودان وعمل فيها وكان عضوًا برابطة الجزيرة للآداب والفنون في مدينة ود مدني، التي أكتسب أسم شهرته منها وكان عضوًا بجماعة تجاوز وعضوًا باتحاد الكتاب السودانيين. أما عبد الرحمن سيكاب «اليمن»، عبد الرحيم شنقب «السودان - سوريا»، محمد الحاج موسى «السودان - العراق»، صالح الجزائري «السودان - الجزائر»، جمال همد «السودان - سوريا»، عبد الجليل حكيم «السودان»، أحمد عمر الشيخ «السعودية» وغيرهم، فتتفاوت نسب تأثرهم الثقافي الإبداعي بتلك المناطق.
فيما تمتاز ساحة الشعر الإرترية بحضور عربي شبه متساوٍ في القصيدة التفعيلة والقصيدة التقليدية، التي جاءت بتأثير واضح من الشعر الجاهلي، فيما جاءت قصيدة التفعيلة نتيجة تأثر بعض الشعراء بحركة الشعر الحر، وبجيل من الرواد في العالم العربي كالسيّاب وغيره.
وكشف «القصاص» أن القصة القصيرة المعاصرة في إريتريا تأثرت بصورة عامة بالقصة القصيرة العربية المعاصرة، خصوصًا من جانب التأثير المعرفي في الشتات، في أقطار كالسودان ومصر وسوريا والعراق ولبنان، ففي السودان - مثلًا - في الثمانينيات كان لها التأثير الأكبر على أغلب كتاب القصة القصيرة العربية من الشباب الإرتريين، إذ يعد وجودها حديثًا جدًا، من بينهم خالد محمد طه وجمال همد والغالي صالح ومصطفى محمد محمود. وتعتمد بعض الكتابات القصصية الإرترية بدرجات متفاوتة على التجريب ككتابات عبد الجليل عبي، والغالي صالح، وصالح جزائري، وعبدالقادر حكيم.
القصة القصيرة المكتوبة بالعربية (التغلغل الصامت)
بعد أن تطرقنا لجوانب نشأة ووجود اللغة العربية، لابد من الإشارة أن هذه النشأة والوجود كان لها انعكاسات عدة قبل أن نمضي بالتفصيل لتناول نشأة الحركة القصصية، كونها - اللغة العربية - لم تنتشر لتعم، إلا أنها أيضًا لم تنحسر فتُنسَى، إذ لا تزال قائمة ومتداولة. وأكده الكاتب الصحافي «عبد الجليل سليمان»: أن اللغة العربية ازدهرت بفضل بعض الأحزاب السياسية ذات النزعة الاستقلالية إبان الاستعمار الإنجليزي (أربعينيات وخمسينيات) القرن المنصرم، كحزب الرابطة الإسلامية الذي دأب على إصدار بعض أدبياته بالعربية. ولاحقًا اقتفت أثره حركة تحرير إرتيريا التي كتب مؤسسها «محمد سعيد ناود» أول رواية إرتيرية بالعربية (رحلة الشتاء)، والكثير من الكتب التاريخية والبحوث والدراسات المختلفة، وهكذا مضت الأمور في سنوات بروز جبهة التحرير قبل ضمورها واضمحلالها، حيث تركت آثارًا لا بأس بها مكتوبة بالعربية، منشورات، مجلات وكتب وأشعار وخلافها.
وتفصيلًا في هذا الجانب قال «سليمان»: لم تشهد القصة القصيرة المكتوبة بالعربية صعودًا في المشهد الثقافي الإرتيري مقارنة بالشعر، إلاّ بُعيد الاستقلال عن أثيوبيا مايو 1993 عبر ملحق الآداب والفنون بالصحيفة العربية الوحيدة في البلاد (إرتيريا الحديثة). وفي هذا السياق يعتبر بعض الراصدين تجربة ملحق الآداب والفنون في صحيفة إرتيريا الحديثة (1993 – 2000) غير مسبوقة ولا ملحوقة - حتى الآن - على الأقل، إذ لفتت أنظار الكثير من النقاد العرب إلى الأدب الإرتيري المكتوب بالعربية والقصة القصيرة على وجه الخصوص، ولعل من وحي هذا الملحق وبناء على ما نشر على متنه كتب - صاحبكم - عادل القصاص أول دراسة فاحصة ومعمقة عن الأدب الإرتيري المكتوب بالعربية والقصة القصيرة على وجه الخصوص، ونشرها (1996م) في صحيفة الخرطوم التي كانت تصدر حينها من القاهرة.
وأضاف: من وجهة نظري أن تلك كانت الالتفاتة الأولى «عربيًا» إلى القصة القصيرة في إرتيريا، خاصة من قبل الأدباء والنقاد المصريين فاهتمت (فريدة النقاش وأحمد عبد المعطى حجازي) بنشر وتقريظ ما يصلهما من الأدباء الإرتيريين من قصائد وقصص في منتصف تسعينيات القرن المنصرم خلال إصدارتيهما المتخصصتين (أدب ونقد وإبداع) على التوالي، ولاحقًا (2010) أفرد الراحل جمال الغيطاني مساحة أكبر «ثماني صفحات» حين نشر للناقد والسينمائي الإرتيري «محمود أبوبكر» على متن صحيفة «أخبار الأدب» رصدًا معمقًا لمسيرة الأدب الإرتيري المكتوب بالعربية تحت عنوان (مرايا الصوت: أنطولوجيا الأدب الإرتيري)، حيث خصصت الأنطولوجيا مساحتها الأكبر للقصة القصيرة (12) نصًا لستة قصاصين، فنشرت لأهم روادها وعلى رأسهم القاص الكبير «عبد الرحيم شنقب» عبر نصية الرائعين «ظلمات الصيف القديم وتبدى الصباح هادئًا يا رفيق».
وزاد: كانت «أخبار الأدب» ابتدرت تلك الأنطولوجيا بمقدمة ربما يفيد اقتباسها وإعادة نشرها هنا مرة أخرى كثير من المهتمين بأدب الهامش العربي كإرتيريا والصومال وجيبوتي وحتى السودان (نسبيًا)، تقول المقدمة تلك: «تبدو إرتيريا بلدًا مجهولًا بالنسبة لنا. ثقافيًا لا نكاد نعرف شيئًا عنها، رغم أن اللغة العربية تعتبر إحدى المكونات الأساسية لثقافتها. الكاتب الإرتيري محمود أبوبكر يقدم لنا مختارات من القصة القصيرة الإرتيرية منطلقًا من الإشارة إلى أهمية رد الاعتبار إلى أدب الهامش في الوطن العربي الذي يعرف سطوة المركز، من خلال الالتفات أكثر إلى تجارب جديدة ومهمة قادمة من دول القرن الأفريقي، حيث هنالك أدب عربي وكُتَّاب جيدون». إذًا ومن تلك المقدمة ننطلق إلى ملخص لمسيرة وتاريخ القصة القصيرة المكتوبة بالعربية في إرتيريا.
عودة من المهَاربْ والملاجئ العربية
وقال «عبد الجليل سليمان»: أشرنا سلفًا إلى أن سنوات صعود القصة القصيرة في إرتيريا يمكن حصرها في ما بين (1993 – 2000)، حيث شهدت الدولة الوليدة استقرارًا نسبيًا بعد أن نالت استقلالها عن أثيوبيا (1991م) وتم الاعتراف بها رسميًا من قبل الأمم المتحدة (1993م)، الأمر الذي حفز الإرتيريين على العودة إلى بلدهم من مختلف المهارب والملاجئ العربية وغيرها، خاصة من السودان المجاور، لابتدار مرحلة البناء والإعمار، ووفقًا لهذا المعطى الجديد (الاستقلال) برز إلى الوجود ملف الآداب والفنون ضمن صحيفة حكومية بحجم (التابلويد) تصدر ما بين ثلاث إلى أربع مرات أسبوعيًا، إلا أن ذلك الملحق رغم ما أكتنفه من (عوار) تقني وتحريري، كان المنصة التي انطلقت منها القصة القصيرة الإرتيرية إلى خارج البلد هذا المجهول صوب السودان ومصر ومن ثم السعودية، وبناءً على ذلك يمكنني القول مطمئنًا إلى أن التاريخ الحقيقي للقصة القصيرة الإريتيرية المكتوبة بالعربية كان العام (1993م)، وفي ذلك الملحق المشار إليه والذي كان يشرف عليه الشاعر الراحل «محمد عثمان كجراى» ويحرره الشاعر الشهيد عبد الحكيم محمود الشيخ.
بطبيعة الحال، فإن التوثيق لمراحل القصة القصيرة في حقب سابقة للعام (1993م) تعد مهمة شاقة وشبة مستحيلة، هذا - إن وجدت - قصة بالفعل، فهذا الجنس الأدبي وإذا ما افترضنا أنه كان حاضرًا في المشهد الثقافي إبان الثورة الإريترية، كما يذهب البعض، فقد كان حضوره بصورة متباعدة جدًا وتكاد لا تُرى، إذ لا يعدو أن يكون كذاك الذي يسمونه برتوكوليًا بـ (ضيف الشرف)، ولأننا لا يمكن أن نركن بوثوقية إلى الظن بأن سبع سنوات فقط كانت كافية لإنتاج كل ذلك الزخم النوعي من القصة القصيرة، فدعونا نقول إنها أسهمت في إخراجه من (الصدر إلى النشر)، حيث تعرفنا من خلال ذلك الملحق على (عبد الرحيم شنقب) الملقب بشيخ القصاصين الإرتريين عبر نصوص كثيرة أهمها (من جرح الأرض ينبت القمح، عافا حمد هزيم الرعد، الأشجار تموت واقفة، عمامة شريف، ظلمات الصيف القديم، تبدى الصباح هادئًا يا رفيق، ونصوص كثيرة أخرى، نشرت تباعًا في ذلك الملحق بين (1993 – 2000)، وواصل النشر بشكل متقطع ومتباعد عقب عام (2000) الذي شهد حربًا ضروسًا بين إرتيريا ومستعمرتها السابقة وجارتها (أثيوبيا)، فتوقف إثرها كل شيء.
هذه الأوضاع «عطلت» مؤقتًا القصة
وأكد «سليمان»: إن تلك الأوضاع «عطلت» مؤقتًا التطور الطبيعي للقصة القصيرة، إذ توقف الملحق ثم عاد خجولًا، ثم توقف كرة أخرى نهائيًا، بعد أن رفد القارئ بالعربية بقصص رائعات احتفت بها المجلات الأدبية المتخصصة والملاحق الصحفية في مصر والسودان وشمال إفريقيا والسعودية، فبجانب عبد الرحيم شنقب، برز القاص والصحافي «جمال هُمَد» المقيم حاليًا في أستراليا بنصوص عديدة نذكر منها (تداعيات متوسطية، بعض من تيه الجسد، شيء من ارتجاج الروح)، و»خالد طه» الموجود في أسمرا ويعتبر من القصاصين الإرتيريين الرواد، ومن أهم قصصه (التين الشوكي، سند، ووصية)، ومن أهم الكتاب الذين رفدوا المشهد القصصي الأرتيري بروائعهم: عبد القادر حكيم ويقيم حاليًا في كندا ومن أهم نصوصه (قيظ ومطر، الحرازة، طنين الأسئلة، صريف الأرصفة، ودوزنة في شقوق الطين)، ولعل أحد أبرز القصاصين بجانب الغالي صالح صاحب اللغة العالية والتكثيف الرائع في نصوص مثل (كاروشة، افتراق، زمن الليمون المدلوق) هو صلاح إدريس (القاص المنسي) كما أسميه، ولعله من الأوائل الذين التفتوا إلى أهمية القصة القصيرة في الحراك الثوري والكفاح المسلح، فكان أن نشر قصته الأولى (قدوسان) في مجلة «ساقم» قبيل استقلال بلادة بسنوات حينها كان طالبًا في جامعة الخرطوم، ثم عاد إلى بلده لاحقًا ليرأس تحرير صحيفة (النبض) العربية، لسان حال اتحاد الشبيبة الإرتيرية التابع للجبهة الشعبية لتحرير إرتيريا (الحزب الحاكم حاليًا)، فأفرد مساحة كبيرة للقصة والشعر المكتوبين بالعربية عبر ملف ثقافي أدبي يضاهي، إن لم يفق نظيره (ملحق الآداب والفنون) في صحيفة الحكومة الرسمية (إرتريا الحديثة)، وكان يضطلع بالإشراف على الملف الثقافي لـ(النبض) وتحريره القاص الكبير الغالي صالح، وعبره نشرت لصلاح إدريس عديد النصوص التي كانت معظمها متأثرًا بالواقعية الإشتراكية، ولعل أهمها قصة (زمن التين الشوكي).
القاص والدبلوماسي السابق
في سفارة الرياض
وزاد: كما شارك آخرون من بينهم القاص والدبلوماسي السابق في السفارة الإرترية في الرياض «فتحي عثمان» بالعديد من القصص، أبرزها (كولاج لمدينة خُلاسية). والحال كذلك، لا ينبغي تفويت الفرصة للإشارة تجربة القاص «إدريس أبعري» الذي يعتبر أول من نشر مجموعة قصصية منتصف تسعينيات القرن المنصرم تحت عنوان (عظام من خزف)، بجانب «صالح الجزائري» وله قصة وحيدة موسومة بـ (التجليات الأخيرة لعروة ابن الورد في العالم الأبشاولي)، و(أبا شاول هو حي شعبي في العاصمة أسمرا)، وأثارت (وحيدته) جدلًا كبيرًا حين نشرها 1996م.
كما أسس القاص عبد القادر حكيم (مقيم في كندا) والقاصة منى محمد صالح (مقيمة في هولندا) مكتبة (أغردات) الإليكترونية على (فيس بوك)، ومن ثم أعلنا 2014م، عن مسابقة وجائزة «محمد سعيد ناود» للقصة الإرتيرية القصيرة المكتوبة بالعربية، ولم تحظ المسابقة في دورتها الأولى بمشاركة فعالة وكادت أن تضمحل لولا إرادة القائمين على أمرها، فكان أن حظيت المسابقة التالية 2015م بإقبال كثيف، حيث أفرزت عديد القصاصين الموهوبين ونشرت أعمال الفائزين الثلاث في صحف ودوريات عربية مثل (إيلاف والبعيد)، وهكذا مضى الحال إلى الأفضل من حيث جودة النصوص واستيفائها للشروط الفنية وبنية النص القصصي، فكانت قصة (ظل الحقيقة) لمحمد علي نور حسين، المقيم في مصر، و(الحورية) لآدم أزوكاي المقيم في سلطنة عمان، وفي (وشاح) ليوسف أحمد المقيم في السعودية، (حالة احتقان) لمصطفى محمد المقيم في هولندا. وفي 2016م، أسفرت المسابقة عن أسماء جديدة أخرى أهمها مصطفى محمد المقيم في هولندا بقصة (حالة احتقان)، وأحمد شيكاي المقيم في ألمانيا بقصة (نتوءات على صدر البحر)، وحسين عثمان المقيم في السودان بقصة (الفرح المهاجر).