نواصل النقاش في هذه الحلقة ضمن المحور الثاني حول الكم اللازم للتعلم الناضج/الناجح في اللغة الأم/الأولى، ونستعرض هنا ما تقوله اللسانيات التطبيقية الحديثة في ميدان تعليم اللغات الطبيعية والتي تشكّل قضية اكتساب اللغة الأم حجر الأساس في بحوثها وميادينها؛ بل إن هذه القضايا مما تناقشها الأدبيات الحديثة وتعدّها ركنا من أركان التعلم والتعليم والتطبع والتنشئة الاجتماعية.
فالقضايا التي طرحناها على شكل تساؤلات والتي رأينا في الحلقة السابقة أنها في التنظير العربي تُترك لفطنة المتلقي واجتهاده وتقديره كماً وكيفاً مع التركيز على الإدمان القرائي وتشجيع الفصحى وقمع العامية أو على أحسن الأحوال عدم الاكتراث بها. وهذا أمر مفهوم ومتوقع وليس محل انتقاص أو تقليل، وهذا كان المحور الأول، وسنرجئ الحديث حول المحور الثالث (ما الذي تقوله وزارة التعليم وتطبقه فعلا في الميدان التربوي؟) للحلقة المقبلة.
فأسئلة من مثل: ما المستوى المطلوب لغوياً لحصول النضج اللغوي في اللغة الأم؟.. كم يلزم من الوقت والجهد لإجادتها وإتقانها؟.. ما الحد الطبيعي للغة الطبيعية؟.. هل هناك معيار كمي لعدد مفردات وتراكيب يتعرض لها المتعلم ليصبح متعلما ناجحا؟.. وفي أي سنّ؟.. وما مدى الجودة في المواد التي يتعرض لها الطفل أو الطالب؟.. هذه الأسئلة وغيرها هي محور الحديث فيما يأتي.
إن الحديث عن اللغة الأم تعلماً واكتساباً يشير إلى مرحلتين مهمتين في حياة الإنسان:
الأولى: مرحلة الطفل في بيته (ما قبل سن المدرسة)، أيّ من ولادته إلى بلوغه السادسة.
الثانية: سن المدرسة المتمثل في اثني عشر عاماً هي مرحلة الابتدائي والمتوسط والثانوي، على اختلاف يسير بين المجتمعات والأنظمة التعليمية والسياقات التربوية.
فالأدبيات لا تكفّ عن طرح أسئلة مثل: كم يكفي للنضج اللغوي عدداً؟.. وكم يكفي جودة ونوعية؟.. وما معنى يكفي بلغة الإحصاء والعلم؟.. فالتعلم الناجح/الناضج يتطلب آلاف الساعات، ويتطلب كذلك مجهوداً ممنهجاً وليس مجرد اجتهادات وتأملات.
فأحادي اللغة الطبيعي يدخل المدرسة في سن السادسة تقريباً بعد أن تتكون لديه طلاقة في لغة البيت، وهي العامية لدينا وشيء من الفصحى، ثم تصقل المدرسة لغته وتطوّرها وتنميها وتبني على ما اكتسبه في بيته وبيئته الأولى. وتؤكد إحدى الدراسات (Jim Cummins، 2008) في (موسوعة اللغة والتربية) على دور المدرسة في صقل اللغة للطلاب؛ إذ تشير إلى أن المهارة الإدراكية في اللغة الأكاديمية (cognitive academic language proficiency) تستغرق وقتاً وجهداً طويلاً، فأحادي اللغة الطبيعي يقضي اثنتي عشرة سنة دراسية لصقل كفايته اللغوية والكتابية (literacy) التي تشمل القراءة والكتابة والقدرة على استخدام اللغة والتصوير (viewing) والتمثيل (representing) والتفكير الناقد للأفكار؛ فاللغة الأكاديمية بطبيعتها معقدة بسبب تراكيبها ومفرداتها ونحوها ومفاهيمها وخطابها، وتشير الدراسة نفسها إلى الضرورة الملحّة لدعم قوي من العائلة والمعلمين لتحقيق ذلك، فاللغة تحمل في طياتها مظاهر علمية وأكاديمية لا يكتسبها الطفل في بيته؛ ولذلك لا بد من صقلها خلال مراحل دراسته، وهو ما ألحُّ عليه في اقتراح الالتفاتة الجادة إليه من وزارة التعليم لدينا.
ويؤكّد الباحثون على أهمية الكمية (الحجم والعدد) والنوعية (الجودة) في الدخل اللغوي الذي يتعرض له الطفل في صقل المهارة اللغوية وتنميتها ونموها سواء في اللغة الأم أو في اللغات الأخرى التي يتعلمها، ولا يمكن إغفال تنوع الدارجة وتنوع الفصحى من إشكالية اللغة الأم واللغة الأخرى (الثانية).
فمن ناحية الحجم بالكم والعدد تشير باتسي لا يتبون (Patsy Lightbown) وهي باحثة عَلَم في هذا المضمار في محاضراتها وكتبها إلى بعض الآراء المشهورة في الميدان، منها مثلاً أنه في الحين الذي يمتلك فيه المتحدث الأصلي الطفل ابن الست سنوات الذي يدخل المدرسة ما يقرب من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف لفظة، فإن البالغ أو الراشد المتعلم يملك -على الأقل- قرابة عشرين ألفا من المفردات بعوائلها، والمقصود بالعوائل الاشتقاقات والتصريفات، مثل درس، مدرسة، ومدرِّس.. مع التأكيد على أن الأرقام تقريبية. وترى أن الزيادة الهائلة تصاعديا في عدد المفردات والكلمات التراكيب تكون بشكل مطّرد خلال سنوات الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وهذه الزيادة تشبه الانطلاق الصاروخي، مما يعني الحرص على التعرض الهائل للمفردات والكلمات بشكل ممنهج وبحسبة مقصودة لا عشوائية وجدانية.
ومن ناحية الوقت والمقياس الزمني تشير باتسي إلى ضرورة تعرض الطفل واحتكاكه (اللغوي)، وتؤكد أن المعدل الطبيعي للطفل الطبيعي أن يمضي مدة تزيد عن عشرين ألف ساعة قبل أن يصل السادسة من عمره، أو أن نقول: لا يبلغ السادسة إلا وقد احتكّ لغ ويا (مع لغة أو أكثر) مدة لا تقل عن عشرين ألف ساعة. أيّ بحسبة تقريبية: أكثر من تسع مفردات يومياً.. ثم يزيد على شكل قفزة هائلة ليكون ما بين السادسة والسادسة عشرة من عمره مقدار الاحتكاك خمسين ألف ساعة منها خمس عشرة ساعة في المدرسة.. بل حاولت بعض الدراسات (مثل Silvina، Montrul. 2008) إجراء حسبة بسيطة للوقت المتاح للتعرض اللغوي لدى الطفل أحادي اللغة الذي ينام ما بين 10-12 ساعة يوميا ويبقى مستيقظاً ما بين 12-14 ساعة، سبعة أيام في الأسبوع ويتطلب حدود 3-4 سنوات لنمو كفايته النحوية لتحديد ما يتاح للتعرض اللغوي من هذه الساعات التي منها لعبه وهواياته؛ فالمقصد أن الأمر ليس متروكاً للاجتهاد. على أية حال، يبقى التساؤل حول الحجم على وجه التحديد والدقة أو حول النوعية (الأنواع تحديداً) غير دقيق في الأدبيات (Silvina، Montrul. 2008) وإن كان تقريبياً.
وبالنظر إلى الجودة وطبيعة الدخل الذي يتعرض له الطفل، تطرح الأدبيات أسئلة من مثل: هل مشاهدة التلفاز كافية؟ هل تكفي عن التفاعل؟.. على أية حال، تلخص دراسة (Silvina، Montrul. 2008) بقولها: إن الجودة على ما يبدو تعني التعرض لدخل لغوي صادر من شبيه المتحدث الأصلي، ويعني في رأيي أنه لا بأس بقليل من الأخطاء وكذلك لغة الطفل الآخر. أيّ بعبارة أخرى: لا تشكّل العامية تهديدا للفصحى. ويعضد رأيي هذا أن باتسي ترى أنه في برامج التعليم التي تتداخل فيها لغة أخرى مع لغة الأم، ترى أن ذلك التداخل لا يؤثر سلبا على قدراتهم في اللغة الأم.
وفيما يتعلق بالمهارات اللغوية تشير باتسي إلى أن القراءة للطفل (لاحظ أن الطفل هنا مقروء له) ما بين ست إلى ثماني سنوات مصدر مهم لنمو المفردات لديه؛ ثم يتجاوز ذلك ما بين السادسة والسادسة عشرة سنة لتصبح قراءته هو بنفسه هي المحرك والمولِّد الرئيسي لنمو مفرداته، فهل نعي في تعليمنا أهمية القراءة للطفل/الطالب في مراحله العمرية المختلفة، وكذلك أهمية قراءته هو بنفسه قراءة للفهم وليست فقط جهرية للدقة اللفظية؟ ومتى يكون ذلك؟.
على أية حال ينبغي الحذر الشديد حين نقل ما تراه الأدبيات؛ إذ تلعب البحوث الميدانية والسياقات التربوية دوراً مهماً في التعلم والتعليم، وأكدت ذلك باتسي حين ذكرت منهجية مهمة للبحث بأنه (أي البحث) ليس معنيّا إلا بما سأل وأين سأل، فلا يؤخذ إلى سياق آخر إلا بحذر؛ ولهذا فمن المهم دراسة سياقنا لغويا؛ حيث اللغة مختلفة، والسياق مختلف، والنظام القيمي والتربوي مختلف. فلا يمكن تعميم نتائج البحوث الغربية إلا على وجه التقريب، وعلى قدر ما تثيره من أسئلة ينبغي ألا نغفل عنها. وهذا ما يقودنا للحديث عن المحور الثالث وهو: الذي تقوله وزارة التعليم وتطبقه فعلاً في الميدان التربوي لنرَ هل لهذه المقولات في الأدبيات الحديثة انعكاس وصدى في الميدان التربوي والتعليمي؟ وهذا سيكون محور النقاش في الحلقة المقبلة.
** **
- د . صالح بن فهد العصيمي