أُمّاهُ إنّي قدْ أتَيْتُ وفي يَدَيَّ طُفُوْلَتي،
وتَرَكْتُ خَلْفِي.. كُلَّ أحْلامِ الشَّبابْ
وبَحَثْتُ عنْ يَدِكِ النَّحِيْلَةِ كي تُعَانِقَ أَوْبَتِي
ورأيْتُها مَمْدُوْدَةً عَبْرَ السَّحابْ
وكأنَّها طَوْقُ النَّجاةِ لحَيْرَتي
وقَفَزْتُ ألْثُمُها.. أُعانِقُها فعانَقَني السَّرابْ!
***
أُمّاه، هلْ ضاعَ النَّدا
وهتَفْتُ في جَوْفِ المَدَى:
رُدِّي لِقَلْبي فَرْحَتي..
فأجابَني مُسْتَوْحِشاً رَجْعُ الصَّدَى
ووَأدْتُ في رُوْحِي بَقايا غُصَّتي
مَنْ قالَ عالَمُكِ الرَّدَى؟!
بلْ عالَمي..
وهَرَبْتُ أحْمِلُ لَوْعَتِي
وبِداخِلي هَرِمَ النَّدَى
وضَمَمْتُ كالمَجْنُوْنِ أطْيافَ الرُّؤَى عَبْرَ الزَّمانْ
فيَدٌ تُعانقُ أوْبَتِي
ويَدٌ تُرَبِّتُ في حَنانْ..
وأنا أقَبِّلُ ذا المَكَانَ
وذا المَكانَ، وذا المَكانْ!
وشَمُيْمُ رُوْحِكَ يا أخي (عَدْنانُ) يَطْفَحُ كُلَّ آنْ
أُمّي تُنادِيْهِ فيَحْضِنُها، ويَحْضُنُهُ الأمانْ
***
يا أُمُّ رُدّي..
ها أنا طِفْلٌ يُعاوِدُني النُّواحْ
وتُحِيْطُ بي الأشْباحُ ساخِرَةً ويَهْجُرُنِي الصَّباحْ
فتُجِيْبُني ألْواحُ نافِذَةٍ تُعَنِّفُها وتَصْفِقُها الرِّياحْ
فتَئنُّ فِي مِزْلاجِها ثَكْلَى تُعَذِّبُهَا وتَنْهَشُهَا الجِرَاحْ
وبَحَثْتُ في الدّارِ العَتِيْقَةِ عنْ صُوَرْ
فوَجَدْتُها تحتَ العَناكبِ في الجِدارْ..
صَوَرٌ يُغَلِّفُها الغُبارْ
تَتْرَى على قَلْبي عِبَرْ
حُلْمٌ يُوارِيْهِ التُّرابْ
فهُنا أثَرْ.. وهُنا أثَرْ
بِئْرٌ مُعَطَّلُةٌ وأسْياجٌ خَرابْ
وجُذُوْعُ أشْجارٍ هَياكلُ في اليَبَابْ
أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرْ
والسِّدْرةُ الجَرْداءُ ذِكْرَى منْ خَبَرْ
***
أُمّاهُ، إنّي قدْ أتَيْتُ كما أنا.. طِفْلاً حَزِينْ
ما بينَ قَلْبي والهَوَى عَهْدٌ تَوَثَّقَ منْ سِنِينْ
ما بينَ حُبّي والمُنَى شَكٌّ يُدَاعِبُهُ اليَقِينْ
إنّي أتَيْتُ وفي يَدي حُلُم الطُّفُوْلَةِ والحَنِينْ
***
أُمّاهُ، هلْ تَدْرِيْنَ مَا فَعَلَ الزَّمَنْ؟!
أمَلٌ تَهَدَّجَ بالأسَى
عُمْرٌ تَكَلَّلَ بالشَّجَنْ..
وتَعَثَّرَتْ أحْلامُنا في دَرْبِهَا
وتَغَرَّبَتْ حَيْرَى كأشْرِعَةِ السُّفُنْ
كُلُّ المَعاركِ خُضْتُها
كُلُّ المَرافئِ زُرْتُها
وبَذَرْتُ آمالي بِها
وهَتَكْتُ أسْتارَ المُدُنْ
ورَحَلْتُ في أسْرارِها، وغَزَوْتُهَا
لكنّني، أُمّاهُ، لمْ أجِدِ السَّكَنْ!
** **
- شِعر: عبدالعزيز محيي الدين خوجة