كان طالبًا في الصف الرابع الابتدائي، من أواسط الطلاب، لم يكن مميزًا بينهم بتفوق ولا ضعف، ولم يكن يقلقه في المدرسة غير الضرب، الذي ما زال آنذاك ثقافةً تعليمية، وإن كان ممنوعًا نظامًا، توسع فيه بعض المعلمين، فجعلوه عقابًا لعدم الفهم، أو للبطء فيه، أو ضعف الحفظ، استعملوه لا لجنحة سلوكية، أو مأخذ خلُقي، وربما عوقب الغبي لغبائه، والعاجز لعجزه، ومحدود القدرات لمحدوديته، وكم أُخذ طالب بشبهة، أو ظلم ظلمًا صُراحًا.
وكان من خبره وهو في الصف الرابع أن درسهم أستاذ ضُرَبة، لا يسقط العصا من يده، ولم يدخل يومًا الفصل دونه، ومع ما اعتادوه من طريقته، وتحملوا من قسوته، إلا أن يومي الثلاثاء والأربعاء أبغض أيام الأسبوع، إذ كان درساه فيهما.
وفي أحد الثلاثاوات غلط الفتى في الحفظ غلطة واحدة، عدَّه لأجلها من غير الحافظين، ثم قسَّم غير الحافظين زُمرتين، تقسيمًا غير مستند إلى ضابط، ثم خير كلا الزمرتين في نوع العقاب، فاختارت زمرةٌ عقاب الأستاذ، واختار الفتى -متزعِّمًا مجموعته- أن يحالوا لمدير المدرسة، ومع ما خوَّفه زملاؤه من المدير، ومن العصا التي كان يعاقب بها، إلا أنه أصر على رأيه، لعلمه أن المدير عاقل متَّزن، لا يضرب إلا لأمر سلوكي كبير، ولا يرضى بالظلم، ولا يعاقب على الشبهة، وأعانه على هذا العزم أن لم يجد معارضًا من مجموعته، فأمر المدرس (عريف) الفصل، أن يقتادهم إلى المدير، وهناك... وجد الفتى من الحرج ما وجد، فقد كانت تلك أول مرة يقاد إلى المدير مذنبًا، وزاد الأمر سوءًا أن دخل وكيل المدرسة مكتب المدير لحاجة، ثم سأل عن الفتى أآتٍ بأحد أو مأتيٌّ به؟ فقال المدير بنبرة عَتب: بل مأتيٌّ به!
أُبلغ المدير بأن هؤلاء لم يحفظوا، فهم بالعقاب، وأخرج العصا، فتكلم الفتى باعتذار قرن به الشكوى، وقال إن الأستاذ يعد من أخطأ خطأ واحدًا غير حافظ، لا يدع فرصة أخرى، ولا يتسامح أو تغاضى، فلم يظهر المدير لكلامه أول الأمر عناية، وسأل: متى درسُ الأستاذِ الآخرُ؟ قالوا: غدًا، قال إذن احفظوا غدًا، وكتب إلى الأستاذ ورقة بهذا.
عاد الفتى إلى الصف منتشيًا بالظفر، مرفوع الرأس، عريض الابتسامة، وكذا مجموعته، التي رأت أنها حمدت عاقبة طاعته، واستبانت رشد رأيه، طرقوا باب الفصل، ودخلوا بعد أن أُذن لهم، فقال الفتى للأستاذ وهو يتوجه إلى مقعده: قال المدير احفظوا غدًا، فلم يُلق المدرس بالاً، وطلبهم إليه جميعًا.. تعال تعال.. تعالوا تعالوا.. ثم ضربهم جميعًا.
عاد الفتى لمقعده، وبكى بحرارة، لأول مرة، على كثرة ما تلقى من الضرب قبلها، ولكن أبكته هذه المرة مرارة الظلم، وذل الهزيمة، والشعور بذنب الرفقاء، بكى لما شعر بالخسارتين، لم ينفعه اجتهاده ولا ثقته ولا جرأته.
مَنَّ الله على تلك الدفعة، فتغير المدرس الفصلَ الثاني، فدرسهم آخرُ أكثر تعقلاً ورزانة، تمضي حصصه بلا خوف من تأنيب وقسوة، ولا رجاء لتحفيز وتشجيع، غير أنه دعا الفتى يومًا ليحفظ، فبدأ بالتسميع: «الطواغيت كثيرون، ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله ومن عُبد وهو راضٍ»، ثم وقف قليلاً، ففتح عليه: «ومن دعا الناس ...» فأكمل: «إلى عبادة نفسه، ومن ادعى علم الغيب» ثم وقف، فقال المدرس: انظر الباب، فالتفت الفتى، فصفعة صفعة أوجعته، فوضع الفتى يده على خده ونظر إليه، لا يدري بأي جريمةٍ صُفع، وهو يقول في نفسه: وأنت سادس الطواغيت!
غريب أمر هذه الصفعة، فلا موجب لها، وليس من عادته الضرب، وضرب الوجه منكر في المدرسة، فضلا عن حكمه الشرعي، وظل أمرها سرًّا في نفس الفتى إلى يومه هذا. وفي السنة نفسها، وقعت حادثة أخرى، إذ عَبِثَ جمع من الطلاب في شيء من أثاث المدرسة، واتخذوه في إحدى الفُسح لعبة لهم، فلما اكتشفوا عوقبوا، وأُدخل الفتى من جملتهم، ظنّوه معهم لما كان وقت الحدث مارًّا بينهم، فضربَ ظلمًا، غير أن ذلك لم يوقع في نفسه شيئًا، فقد فرط الأمر عن خطأ، فلا ظلم ولا أذى متعمد.
مواقف ثلاثة، اتحدت العقوبة، واختلف القصد، فتباين الأثر، فبقيت مرارة الظلم المتعمد، وبقيت الحيرة والتوقف في شيء لم تفهم دوافعه، ومر غير المتعمد باطمئنان نفس، وعفو ورضا، فإنما الأعمال بالنيات، والأمور بمقاصدها، وذو النية السليمة، وإن أخطأ، فإن عاقبة الأمر إلى خير. الضرب وقت دراسة الفتى الابتدائية (1404 - 1409هـ) ممنوع نظامًا، ولست في هذا المقام معنيًّا بأمره قبولاً ورفضًا، ولكن لأشير إلى ثنائية العرف والنظام، فلا بد للنظام من ثقافة تؤيده، وقناعة تفعّلُه، فلقد بقي المجتمع ردحًا من الزمن يرى ضرب المعلم طلابَه - وإن كان مبرحًا- تأديبًا وتربية، فلا ترفضه البيئة المدرسية، ولا ينكره الأهل، أو يشتكون من يضرب أبناءهم، بل ربما أبدى ولي الأمر للمدرسة ما يشعر بإطلاق العنان لهم في تأديبه. إن للعرف سلطة تؤيد سلطة النظام، لا بد أن تغرس معه، فللعادة تأثيرها، وللعرف حكمه، ولما تغيرت ثقافة المجتمع حول العقاب بالضرب في التعليم، ظهر أثر المنع، وفعلت عقوبات تجاوزه، حتى صارت الشكوى في هذا الجيل من ضده! وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم