كل إنسان في التاريخ والجغرافيا يولد «بالجبر» منتمياً لقبيلة ما؛ وبلد ما؛ ومنطقة ما داخل ذلك البلد؛ وإقليم يجمع بلدانًا عدة متجاورة؛ وفي نهاية المطاف للبشرية في الكرة الأرضية كلها. وليس له حق الاختيار في ذلك كله، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة؛ لماذا الانتماء «القوي» للمجموعة الأصغر هو الأكثر شيوعاً؟.. لماذا الانتماء الأقوى هو للقبيلة؛ ثم للفخذ أو البطن داخل القبيلة؛ ثم للعائلة الكبرى فالصغرى؟.. لماذا يقتنع الجميع؛ وكأنما هو شيء بديهي؛ بالمثل الساذج «أنا وابن عمي على الغريب؛ وأنا وأخي على ابن عمي»؟.. الجواب ببساطة متناهية؛ هو أن كل فرد يشعر بأنه غير «آمن»، وأنه لا يشعر بالأمان إلا بوجود «آخر» يعاضده!
قبل الدخول في سبب الشعور بـ «عدم الأمان»؛ نسأل: هل الانتماء في القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد، بقي هو ذاته بعد أحد عشر ألف سنة ونيف من نشوء أول حضارة في التاريخ؟... بالطبع لا! فالانتماء للوطن أقوى وأنجع من الانتماء للقبيلة، لأنه انتماء للحق!
إذا افترضنا أنه - لا سمح الله - نشب نزاع مالي بينك وبين أخيك؛ وكان أخاك هو الجاني؛ فستلجأ لمساعدة محامٍ «غريب»، أي أنك ستكون «مع الغريب» ضد أخيك! ولكن ليس هذا ما أردت الإشارة إليه! فالشعور بالمواطنة يرقى إلى أعلى درجات الأخلاق والمبدئية، بل هو يتربع في قمتها. وكم من مثقف «مدعي» يقدم نفسه «وطنياً» أولاً، ويعاكس ذلك عند أول اختبار!
بيد أن الشعور بالمواطنة لا يعني التخلي عن مشاعر الانتماء العائلية أو القبلية أو ما شابه، إنما يتجاوزها، فهو يسمو فوق كل الانتماءات الأخرى. كما أنه حق تكفله وتدعو له كل الشرائع. ويحقق أعلى درجات الشعور بالأمان، ولكن ليس من السهل اكتسابه وترسخه في الوعي، حيث أنه يتطلب نكران الذات أو التخلي عن المصلحة الفردية، بل التضحية بالنفس في غالب الأحيان. وهو شعور مكتسب من التربية في العائلة الصغرى والكبرى والمدرسة والعلاقات الاجتماعية العامة، ولكنه يتعارض مع استمرارية الهيمنة الاستعمارية على الوعي، من حيث إن هذا الوعي هو الكفيل بتحقيق الاستقلال السياسي والتنمية الاقتصادية للأوطان، أي الأماني الوطنية.
هناك سبل عدة يتبعها الاستعمار مع زالة أو محاصرة الوطنية أو مشاعر المواطنة في النفوس أهمها؛ أولاً- نزع التربية الوطنية من المناهج المدرسية أو تسطيحها، بحيث تصبح غير فاعلة. ولكن نزع التربية الوطنية من العائلة والمجتمع خارج نطاق التعليم هو الأصعب. بالتالي الترويج في الإعلام والثقافة العامة أن اللصوصية والفساد والاعتداء على الأموال العامة؛ هو «ذكاء» وشطارة. أما المشاعر الوطنية كالشرف والأمانة والالتزام بالحق والقانون هو «سذاجة وغباء» وقلة حيلة. وهذا بالذات هو سبب «عدم الأمان» عند الناس.
وثانياً- زرع الفتنة بين المجموعات الاجتماعية المختلفة، كالقبائل والطوائف والمناطق، لأن المشاعر الوطنية تذيب الفوارق بين الفئات.
وثالثاً- هو جعل الشعور الوطني تهمة يعاقب عليها «القانون»، وبالتالي كي تتملك الشعور الوطني وتجعله شائعاً في مجتمعك، يجب عليك أن تنتزعه «انتزاعاً» وبتضحيات جسام.
لا يوجد متسع لذكر كل الأساليب الاستعمارية لتشويه الوعي، كتزوير التاريخ والجغرافيا وغيرهما، ولكن توجد حقيقة لا يستطيع الاستعمار وأذنابه تجاهلها؛ وهي أن المشاعر الوطنية تزداد كماً ونوعاً عند الشعوب كافة؛ سواء صناعية أو متخلفة؛ وتحفر أساطير على صخور التاريخ؛ أبرزها الأم الفلسطينية التي «تزغرد» لاستشهاد ولدها الخامس؛ والحديث يطول.
** **
- عادل العلي