الجزيرة الثقافية - حمد الدريهم:
في الثالث من ديسمبر عام 2019م، رحل المترجم الكبير صالح علماني عن عمر ناهز السبعين عامًا؛ ليترك نهرًا لاتينيًا في الثقافة العربية، رواهُ بحبر ترجماته المتعددة التي امتدت لعقود طويلة، رحيله المؤثر استنطقَ المثقفون الذين لا تخلو رفوف مكتباتهم من حبر ذلك النهر العذب؛ ليرووا شهاداتهم في ذلك الراحل الكبير:
* * *
د.منيرة الغدير: كان يحكي للغة العربية ويثريها بهبات السرد اللاتيني
الراحل صالح علماني علمنا نظرية الترجمة بتقشفه كمترجم أمام اللغة الباذخة، وهو يتفانى في نقل الأدب الذي شُيّد باللغة الإسبانية. كلما أثرى اللغة العربية، ازداد تقشفًا وعزوفًا عن مهمة المترجم وترك الضوء وكأنه يعيد تمثيل فعل الترجمة: لقاء في المنتصف بين لغتين؛ نسيان الأنا ووله بالآخر؛ وبحث سرمدي عن معنى منفلت. صالح علماني فهم فعل الترجمة جيدًا ومسرحه بإبداع ساخر. كان يحكي للغة العربية ويثريها بهبات السرد اللاتيني والأخيلة المهاجرة. لكنه تناسى حضوره ككاتب وسارد، واكتفى باختفاءات المترجم والتنصل من دوره في إفشاء سر دهشة السرد للغة الأخرى. صالح علماني اكتفى فقط بالهمس بدروس الكتابة في آذان كتاب وكاتبات الرواية العربية، واستمر في تدريس الكتابة السردية على الرغم أن أحدًا لم يمنحه هذا اللقب. في الرثاء، ربما يظهر اعترافًا بالدين المؤجل.
* * *
يزن الحاج: فضَّل التضحية بالأسلوب لصالح جمال الظل
تشير الشاعرة والمترجمة الكنديّة «آن كارسن» إلى أن «المترجم هو مَنْ يقف بين الجسم وظلّه»، فيضبط وقفته بين جسم النص الأصل وبين ظل النص المترجم، وتَخْلُص إلى أن «الظلال تسقط وتتحرّك» بمعنى اختلاف الترجمات باختلاف المترجمين. ينقسم المترجمون إلى مدرستين: مدرسة ترى وجوب تساوي زاوية الإسقاط لدى الجسم وظلّه، وتقديم نص لا يختلف عن الأصل إلا في اللغة؛ ومدرسة ترى وجوب تعديل زاوية سقوط الظل بحيث يكاد الظل يتحول إلى جسم مستقل. المعلم الراحل صالح علماني من أنصار المدرسة الثانية، بل لعلّه أحد أبرز مروّجيها. سعى علماني دومًا إلى تقديم نص عربيّ أكثر من كونه مجرد ترجمة، بحيث قرأنا كتّاب أميركا اللاتينيّة كما لو أنّهم يكتبون بالعربيّة. يبدو الأمر جميلاً للوهلة الأولى، ولكنّ تحوّل اللغة يعني بالضرورة تلاشي الجسم وتلاشي أسلوب الكاتب الأصليّ وتحوّل الظل ليصبح جسم المترجم. ولهذا لا نرى فرقًًا كبيرًا بين الكتّاب على اختلافهم، إذ صاروا أقرب إلى أسلوب علماني الذي كان يدرك هذه المعضلة، وفضَّل التضحية بالأسلوب لصالح جمال الظل. قدّم لنا علماني ظلالاً جميلة كثيرة فاقت المئة، ولكنّه أفسح مجالاً لمترجمين آخرين كي يخالفوه ويقدّموا ظلالاً مختلفة كانت بالعموم أقرب إلى الجسم الأصل. نتعلّم من المعلّم، بشرط أن يكون بارعًا، حين يصيب وحين يخطئ. كان صالح علماني أحد أبرع المعلّمين في الترجمة، وقدّم لنا دروسًا لن تنتهي برحيله.
* * *
فيء ناصر: كان مقاتلاً من طراز خاص
التقيت صالح علماني مصادفة في معرض أبو ظبي للكتاب عام 2017، كان يتجول بمفرده، وبفرح وحماس حييته وشكرته ومدحت جهده بالترجمة وقلت له إنه أول من عرفني بماركيز ويوسا واليزابيث اليلندي، كان الرجل خجولاً جدًا وكل جوابه كان ابتسامة خفرة فقط. طلبت منه أن التقط صورة معه وهكذا كان. استعدت تلك الصورة والمناسبة حين سمعتُ بخبر رحيله المفاجئ. صالح علماني الذي ترجم أكثر من مئة عمل أدبي من اللغة الإسبانية إلى العربية خلال 4 عقود أو أكثر من حياته، كم سنة مرت عليه وهو يشتغل بجد وصمت على مشروعه في الترجمة وكم أنفق من عمره لكي يمهد جسرًا غير مرئي بين الإسبانية والعربية. في سنواته الأخيرة فقط صار صالح علماني مترجمًا نجمًا يكفي أن يترجم عملاً ما حتى يجد ذلك العمل حظوة بين القراء. وأجزم أنا التي خبرت الترجمة بصعابها ودروبها الشائكة وحيرة اختيار مفردة ما أو نحتها لتكون أكثر قربًا إلى الأصل، أجزم أن صالح علماني كان مقاتلاً من طراز خاص، فقد طوّع أجمل روايات أدب أمريكا اللاتينية بذكاء ومهارة وقدمها إلى القارئ العربي.
رحمك الله يا صالح علماني فقد كان ترجماتك منارة ستبقى مضيئة للقراء العرب.
* * *
د.سيف المعمري: لقد قام بما لم تقم به مؤسسات ثقافية
ثمة مشتركات تجمعني مع المترجم صالح علماني - أو سفير اللاتينية إلى العرب كما يلقبه البعض- نتيجة تخصصه في ترجمة أدب هذه المنطقة التي قدمت أدباء مؤثرين على مستوى العالم؛ والمشترك الأول هو جابريل جارسيا ماركيز وهو من الأدباء الذين تركت رواياتهم أثرًا بداخلي لا يزال باقيًا حتى اليوم؛ وحين قرأت رواياته وأنا ما أزال طالبًا جامعيًا لم أدرك أن صالح علماني هو من كان ترجمها؛ والمشترك الثاني هو الشغف بالأدب اللاتيني واللغة الإسبانية هذه اللغة التي تعد مفتاحًا لمعرفة تراث وأدب وتربية ما يزيد على عشرين دولة وأكثر من خمسمائة مليون إنسان في العالم؛ ولقد كان الفضل لعلماني في مساعدة القراء العرب في الانفتاح على أدب هذه الدول التي لها تميزها وخصوصيتها، والمشترك الثالث هو في الإيمان بالترجمة كوسيلة للنهضة والتواصل الحضاري مع الآخر والانفتاح على مختلف ثقافات؛ وهذا ما أمن به علماني منذ أن قرر التحول من دراسة الطب إلى دراسة الأدب والترجمة؛ ولو لم يتخذ هذا القرار الجريء في ذلك الوقت، لوقف تاريخًا ناصعًا سوف يسجل باسمه وكان له فيه الريادة؛ ولحرَّم الملايين من أبناء العربية من الاستمتاع بما كتبه أدباء عظماء أمثال ماركيز وسارماغو، لقد قام وهو فرد بما لم تقم به مؤسسات ثقافية وتعليمية وهي تملك من الدعم المادي واللوجستي الكثير مما يمكنها من بناء جسور ممتدة يعبر منا شباب العربية إلى العالم، لكي لا يكونوا مستلبين إلى ثقافة بعينها نتيجة تمكنهم من لغتها أو نتيجة تمكن اللغة من مؤسسات تعليمهم.
* * *
د.هناء حجازي: شعرت أن كتب الأدب اللاتيني تبكي رحيله
هذا هو الخلود. هذا ما شعرت به حين رأيت كل هؤلاء الأدباء يبكون رحيل صالح علماني. الحزن كان حقيقيًا وصافيًا. بالنسبة لي شعرت أن كتب الأدب اللاتيني تبكي رحيله، تيتمت. لن تجد من ينقلها بحذاقته وبراعته وأناقة الكلمات التي يختارها كي تكون بديلا عن اللغة التي ينقل عنها. كأنه جواهرجي يحمل الكلمات الجواهر يقلبها بين يديه ويضع الجوهرة المصقولة جيدًا في مكانها بالتمام.
وحده صالح علماني استطاع أن ينقل المترجم من ذلك المكان المجهول الذي لا يعرفه أحد ولا يسأل عنه أحد كي يكون بين الذين تبحث عنهم، تتساءل من المترجم، لأنه عرفنا معنى أن تكون الترجمة جيدة، الفرق بين أن تقرأ كتابًا ترجمه صالح علماني عن مترجم آخر مثل أن تقرأ كتابًا جيدًا أو لا. هذا ليس إجحافًا لباقي المترجمين، على العكس، صرنا نعرف بفضله وبفضل الفرق الذي صنعه كيف نبحث عن المترجم الجيد، صرنا نعرف أسماء المترجمين ونبحث عن ترجماتهم.
صالح علماني الأديب، اختار لنا ماذا نقرأ. ولأننا نعرف أهمية ترجماته، صار هو يقودنا نحن العرب إلى الأسماء التي يعرف أنها تستحق، أسماء كثيرة لم نكن لنعرفها لولا أن قرر صالح علماني أن يترجمها لنا. دلنا نحن الذين لا نعرف اللغات التي يعرفها إليها. أخذ بيدنا ووضعها أمامنا وقال، أحضرتها لكم. تفضلوا. اقرأوا واستمتعوا. لذلك نبكيك صالح، ستبقى أسماء مجهولة لا نعرفها بعدك.
* * *
أحمد المطرودي: كان يقوم بمفردات الترجمة كاملة.
في عام 1427هـ كنتُ في مهمة عمل رسمية في معرض الكتاب الدولي بتونس، وقد اعتدتُ التجوّل والحديث مع الزملاء العاملين في المعرض، وكان منهم القائم على دار سورية، الذي شكوتُ له صعوبة قراءة «مائة عام من العزلة» بعد أن رأيتُها عنده في أحد الرفوف؛ لكنّه نجح في إغرائي باقتناء نسخة أخرى؛ مبددًا مخاوفي بأنّ ترجمة صالح علماني تستطيع أن تنقلني لذلك النص العالمي، ويمكن لي أن أستمد منها تلك الجماليات واللطائف، التي منحت هذه الرواية تلك الشهرة، وذلك الحضور...كما وجّه لي دعوة كريمة لزيارة المكتبة في دمشق، مثنيًا على المكتبة وتراثها وموقعها وحجمها، وإن لم تكن بحجم مكتبات الرياض؛ بحسب تعبيره.
بعد أشهر من ذلك التاريخ كنتُ في دمشق، وفي تلك الدار؛ وإذا بصالح علماني يأتي تعرّفتُ عليه مع صاحب المكتبة، ولبّى دعوتي في دمشق بزيارة مطوّلة، تخللتها أحاديث كثيرة، استقر في ذاكرتي منها أنه كان يقوم بمفردات الترجمة كاملة، من نقل للنص، وتصحيح لغوي، وإملائي؛ دون وجود معين في تلك الرحلات الثقافية والمعرفية، التي تحتاج وتتطلب ونيسًا مشاركًًا كان قد وعدني بزيارتي في الرياض، التي جاءها زائرًا؛ لكنّ عارضًا صحيًا آنذاك منعه مرة، ومرة أخرى منعته زيارة لأخته في الشرقية.. أذكر أنه كان يتطلع لجائزة إماراتية تساعده في تحسين ظروفه المعيشية، رحيل صالح علماني دعوة لنا للعناية بالترجمة والمترجمين.
* * *
علي سعيد: كان علماني مثالاً للمخلص لمشروعه
في العام 2005 صدرت ترجمة صالح علماني لكتاب (مئة عام من العزلة). في ذلك العام كنت في دمشق وسألت أصدقاءه في مقهى الروضة الدمشقي عن موعد وجده في المقهى. أجابني أحدهم قائلاً: إن صالح علماني لا يزور المقهى إلا نادرًا جدًا. وطوال سنوات دراستي في جامعة دمشق لم ألتق صالح علماني لكنني التقيته عندنا في الدمام، حينما جاء إلى جمعية الثقافة والفنون بالدمام ليقدم محاضرة، حضرها جمهور لافت. أذكر هنا، أن باحثة ألمانية حضرت المحاضرة ودهشت أن يكون للمترجم مثل هذه «النجومية»، أليس المترجم هو ناقل للنص الأدبي وحسب؟. أجل ولكن مع ولادة ظاهرة صالح علماني تحول المترجم إلى نجم ثقافي ينافس الروائي والشاعر في النجومية الأدبية. ولكن مع كل ما يمكن أن نقوله عن نجومية صالح علماني الأدبية إلا أنه بقي زاهدًا وبعيدًا عن الأضواء. في العام 2017 صادفته في ممرات معرض أبو ظبي للكتاب، كان برفقة الأستاذ هاشم الجحدلي، وحين رآني رفع ذراعيه وعانقني بحرارة ومحبة كبيرة، ثم التفت لهاشم وقال معرفًا بي: «هذا من روائع السعودية». كانت عبارته المُحبة دافعًا لأن أصحبه معي لنتجول في المعرض ثم لنجلس في مقهى هناك، حينها سأل صالح علماني قائلاً: «هل تعرف أفضل أنواع القهوة؟ إنها تلك التي تصنعها بنفسك في البيت.. لتنتهي بالحصول على أطيب فنجان قهوة في العالم». وقبل أن ننتقل بالحديث لموضوعات أخرى عرفت لماذا لم أر صالح علماني في مقاهي دمشق، ليس لأنه يحب قهوة البيت فقط، بل لأن لا وقت لدى مترجم المئة والعشرة كتب للجلوس في مقاهي المثقفين. كان علماني مثالاً للمخلص لمشروعه (ترجمة الأدب من اللغة الإسبانية) وهو ما عاش لأجله وأفنى عمره فيه. فلروحه السلام والرحمة ولاسمه الخلود.
* * *
د.خالد العوض: حياة علماني تشبه الروايات اللاتينية
يظل اسم صالح علماني ماركة مسجلة في أغلفة الكتب التي تحمل الثقافة اللاتينية وخاصة أسماء رواد روايات الواقعية السحرية التي يتزعّمها جابرييل جارسيا ماركيز وساراماغو وغيرهم، حيث وصلت الكتب التي ترجمها إلى ما يزيد عن 100 كتاب.
رغم هذه الشهرة الواسعة كمترجم من اللغة الإسبانية إلى العربية إلا أن اسمه ظلّ مختفيًا وراء جدارين يحجبانه عن الجمهور أولاهما هو جدار الترجمة التي تجعل المترجم يضيع في زوايا الكتاب الذي يترجمه؛ أما الآخر فهو بعده عن الإعلام والأضواء، إذ لا تجده كثيرًا في المؤتمرات والندوات التي تخص الترجمة. لكن هذا الجدار الأخير تصدّع في السنوات الأخيرة بعد أن حفر علماني اسمه على أغلفة الروايات التي يكتبها الأدباء في اللغة الإسبانية، حيث كان علماني نافذة العرب نحو هذه الثقافة المختلفة التي بدأت تزاحم كتّاب الأدب الغربي وتخطف جوائزهم الأدبية مثل جائزة نوبل.
كانت حياة علماني تشبه الرويات اللاتينية التي يترجمها، إذ كان حديثه النادر في المؤتمرات النادرة التي يشارك فيها مليئًا بالجمل غير المكتملة التي لا تشبه اللغة أو الكلمات التي كتب بها «الحب في زمن الكوليرا» على سبيل المثال، كما لو كان يقول «قصتي أكبر من أن أوجزها هنا ولا يمكنكم أن تحصلوا عليها مني لأنها ضاعت مع أصوات الذين أتحدث بالنيابة عنهم».
عاش صالح علماني مثل أي فلسطيني مغترب يكافح من أجل لقمة العيش بالقرب من مخيم اليرموك في دمشق لكنه في الواقع كان يعيش فوق جبال الأنديز يبحث للقراء العرب عن أفضل ما كتبه الأدباء في أمريكا الجنوبية لينقلها لهم ويردم هوة بين الثقافتين العربية واللاتينية لم يكن من السهل تجسيرها دون صالح علماني.
* * *
عبدالله الزماي: أصبح القارئ يختار الرواية لاسم مترجمها
حين يموت مترجم ينكسر جسر ثقافي عظيم يربط بين الكتاب والقراء. صالح علماني من أهم المترجمين العرب الذين وضعوا لهم اسمًا وتاريخًا وأثرًا لا يمكن أن يزول بسهولة. ارتبط اسمه بكبار روائيي الأدب اللاتيني مثل ماركيز ويوسا وإيزابيل الليندي وغيرهم حتى أصبح القارئ يختار الرواية لاسم مترجمها، هذه المكانة التي وصل لها علماني نتيجة دأب سنوات وسنوات وهو مما يعكس الأهمية الكبيرة التي يتبوأها المترجم والتي لا تقل بأي حال من الأحوال عن أهمية الكاتب والمؤلف، فالمترجمون هم سفراء الأدب وحمامه الزاجل وكل تقدير يناله هو تقدير لدوره العظيم وجزء أصيل من احترام الثقافة لنفسها، وضرورة تثاقفها وتواصلها مع الثقافات العالمية الأخرى.