د. عبدالحق عزوزي
عاشت وتعيش فرنسا منذ أسبوع شللاً واضحًا في وسائل النقل وخصوصًا الحديدية منها ناهيك عن التعليم والصحة وشرائح كبيرة في الوظيفة العامة بسبب تواصل الإضرابات ضد إصلاح نظام التقاعد في محاولة من النقابات والمضربين من جعل الحكومة ترضخ لمطالبهم وإيقاف «النظام الشامل» للتقاعد الذي يُفترض أن يحل اعتبارًا من عام 2025، محل 42 نظامًا تقاعديًا خاصًا معمولاً بها حاليًا.
بدأ المختصون يطرحون أسئلة كثيرة.. ماذا ستفعل الحكومة؟ هل هذه التحركات تهدد ولاية ماكرون؟ إلى أي حد ستستجيب الحكومة لطلب نقابة السي جي تي بسحب الإصلاح برمته؟ ما التنازلات التي يمكن أن تقدمها وهل صحيح أخطأت في برمجتها لمشروع الإصلاح؟
يوم الأربعاء الماضي وبعد أيام عجاف وعاتية من الإضرابات، أعلن رئيس الحكومة الفرنسية أدوار فيليب تفاصيل مشروع إصلاح نظام التقاعد في مقر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في باريس، معتبرًا أن «الضمانات الممنوحة» من الحكومة، «تبرر استئناف الحوار وإنهاء إضراب يعاقب ملايين الفرنسيين».
وأضاف رئيس الحكومة أن نظام التقاعد الجديد لن يشمل الفرنسيين الذين ولدوا قبل عام 1975، وسيبدأ العمل به ابتداء من 2022. وأكَّد فيليب أن المشروع الجديد الذي اقترحته الحكومة يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية وهي مبدأ «الشمولية» ومبدأ «الإنصاف والعدالة»، إضافة إلى مبدأ «المسؤولية».
وأكَّد رئيس الحكومة الفرنسية أن الهدف من الإصلاح هو توفير حماية أكبر وعدالة لجميع الفرنسيين، حيث إن الذين لا يتجاوز دخلهم السنوي 120 ألف يورو، سيسهمون بشكل عادل في تمويل نظام التقاعد. أما الفرنسيين الذين يتقاضون أكثر من هذا المبلغ، فسترفع مساهماتهم المالية إلى 2 في المائة، وسيرتكز نظام التقاعد الجديد حسب رئيس الحكومة الفرنسية على نظام «النقاط»، مشيرًا إلى أن كل ساعة من العمل يقوم بها شخص ما سيتم احتسابها بالنقاط، وذلك خلافًا عمّا كان معمولاً به في النظام السابق. كما أضاف أن قيمة «النقطة» سيتم تحديدها من قبل الشركاء الاجتماعيين (النقابات العمالية والجمعيات التي تمثل أرباب العمل).
من يعرف المجال العام السياسي الفرنسي، لا بد وأن يكون قد انتبه إلى أن كل الحكومات الفرنسية المتتالية كانت تتغاضى عن إصلاح جذري لنظام التعاقد لأنه موضوع حساس ولأنها تعي أنها ستفتح أبواب جهنم عليها خاصة إذا كانت في موعد قريب من الانتخابات، ونتذكر المظاهرات والتحركات الاجتماعية بشأن التقاعد في 1995 و2003 و2010.
بالنسبة للرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون الذي جعل من «تغيير المياه الراكدة» فرنسا هدفًا لعهده، تبدو الأيام المقبلة حاسمة بل خطيرة على المستقبل السياسي لحزبه؛ فالحكومة تجازف في سياق اجتماعي متوتر أصلاً، مع تحركات محتجي «السترات الصفراء» غير المسبوقة منذ أكثر من سنة وتفاقم الإضرابات والاستياء العام في المستشفيات وفي صفوف الطلاب وعمال سكك الحديد والشرطة ورجال الإطفاء والأساتذة والمزارعين... إلا أن هذا الإضراب يحمل إلى الشوارع حصته من التوترات والصعوبات خصوصًا لدى مستخدمي وسائل النقل المشترك في المنطقة الباريسية.
سبق أن كتبنا منذ سنتين أنه لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة، لم يصل لا اليسار ولا اليمين إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية التي عرفت تتبعًا إعلاميًا دوليًا قل نظيره... فوصل حزب الوسط الجديد برئاسة شاب ذكي اسمه ماكرون، كان يعمل مستشارًا للرئيس هولاند في قصر الإليزي قبل أن يعينه وزيرًا للمالية، وقبل أن ينقلب بحرفية وذكاء على الدولة العميقة الفرنسية... فاز السيد ماكرون الجالس الآن على عرش الإليزي، ولم يصل لا اليمين ولا اليسار إلى الحكم لأن الشعب الفرنسي لم يعد يثق فيهم ولا في أفكارهم ولا في إيديولوجيتهم، وأحدث زلزال في تاريخ الجمهورية الخامسة وفي مصير الدولة الوطنية. ثم المهم من هذا المثال، هو أن مسألة الثقة هي من المحددات التي تطبع مسار تكوين الدولة والمؤسسات... ولئن كانت المجتمعات السياسية مختلفة من قطر إلى آخر، فإن مدى تماسكها وقوتها على رد الرياح العاتية والمياه الأجاج الجارفة، يكمن أولاً وقبل كل شيء في الثقة، ويقيني أن انعدام هاته الثقة ستطول الجميع في فرنسا، والتصريحات الأخيرة لرئيس الحكومة أدوار فيليب لا أظن أنها ستوقف التحركات الاجتماعية المتعددة في البلد، وهو ما ينذر بمجال سياسي عام جد معقد.