أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: فيه منادح غير القياس؛ وبراهينها ثابتة؛ وهي استنباط أحكام الوقائع المستجدة من معانيها وأوصافها التي ورد بها النص واستصحاب حال البراءة الأصلية.. إذن القياس غير متعيّن حتى يكون ضرورة.. وثانيها أن مثال ابن رشد غير مطابق لدعواه؛ فدعواه عمَّا سكت عنه الشرع من أحكام؛ وأمثلته بالوقائع المتدفقة، وأما الوقائع فليست هي الأحكام؛ وإنما هي موضوع الأحكام؛ إذن كون الوقائع لا حصر لها لا يعني أن الأحكام غير محصورة؛ بل الأحكام محصورة منصوص عليها شرعاً بالنص على الواقعة بالاسم، أو بالمعنى والصفة؛ وإذن أيضاً فكل واقعة استجدت، ولم ينص على اسمها؛ فالحكم موجود في معانيها وأوصافها.. وثالثها أن (ابن رشد) أدخل في محل النزاع حصر النصوص والأفعال والإقرارات بمقابل الوقائع غير المنحصرة؛ لينتج عن ذلك: أن ما يتناهى لا يشمل ما لا يتناهى.
قال أبو عبدالرحمن: إنما يرد هذا على من قال: كل الوقائع منصوص عليها؛ ولا قائل بذلك؛ وأما الذين يناقشهم (ابن رشد): فلا يلزمهم ذلك؛ لأنهم يعترفون بأن الوقائع غير منصوص على أسمائها؛ وإنما دعواهم النص على حكم كل واقعة؛ لأن كل ما وقع أو سيقع له وصف أو معنى منصوص عليه، ولأن الشرع بنصه وفعل مبلغه وإقراره: جعل للحس والعقل مجالاً في الاستنباط والتلقي غير متعين بصور القياس الأصولية الظنية؛ بل عمل العقل أشمل من القياس؛ ولقد جعل الشرع الإباحة والبراءة أصلاً يستصحب لكل واقعة لم يقم من الشرع برهان على أن حكمها غير الإباحة.. وقال أبو الوليد: «وأصناف الألفاظ التي تتلقّى منها الأحكام من السمع أربعة: ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه؛ فأما الثلاثة المتفق عليها: فلفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه، أو لفظ عام يراد به الخصوص، أو لفظ خاص يراد به العموم، وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، وبالمساوي على المساوي؛ فمثال الأول قول الله سبحانه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ (سورةالمائدة/ 3)؛ فإن المسلمين اتفقوا على أن لفظ الخنزير متناول لجميع أصناف الخنازير، ما لم يكن مما يُقال عليه الاسم بالاشتراك، مثل خنزير الماء.. ومثال العام: يراد به الخاص كما في قوله سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا (سورة التوبة/ 103)؛ فإنّ المسلمين اتفقوا على أنّ الزكاة ليست واجبة في جميع أنواع المال.. ومثال الخاص يراد به العام قول الله سبحانه وتعالى: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ (سورة الإسراء/ 32)؛ وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم، وما فوق ذلك».. انظر كتاب (بداية المجتهد) 1/ 22 .
قال أبو عبدالرحمن: تمثيله بالخنزير تمثيل للعام يحمل على عمومه، ووجه العموم هاهنا: أن خنزيزاً اسم جنس؛ فإذا دخلت عليه (أل) وليست للعهد استغرقت أفراده؛ والاتفاق الذي حكاه (ابن رشد) إنما هو الاتفاق على حمل العام على عمومه؛ وأما كون الخنزير من العام فمحل خلاف، والصواب قول الجمهور: أن الأصل دلالة (أل) على جميع أفراد الجنس ما لم يقم دليل على العهد، وكلمة خنزير تصدق على الواحد والجمع لدلاتها على مجرد الجنس الذي يصدق في الواحد والأكثر؛ فدلالتها على الجنس لغوية.. و(أل) دالة في الأصل على جميع أفراد الجنس؛ وتلك دلالة نحوية، والخنزير في الطبيعة والحس جنسان هما خنزير البر، وخنزير الماء؛ فإن كان يطلق لغة على الجنسين فيخرج خنزير الماء بدليل شرعيٍّ آخر عن عموم استغراق (أل) للجنسين، وإن كان يطلق على جنس الخنزير البري، ثم أطلق على خنزير الماء تشبيهاً: فخنزير الماء غير داخل؛ وهذا الاحتمال الأخير أرجح، لأن خنزير الماء لا يراد إلا إذا أضيف إلى الماء، ويراد خنزير البر بإطلاق مادة خنزير.
قال أبو عبدالرحمن: ولا يعرف العام يراد به الخاص إلا بدليل من خارج، لأن الأصل الحمل على العموم؛ ولقد فرق الأصوليون بين العام يراد به الخاص، والعام المخصوص بفروق منها: أن العام المراد به الخاص يكون فيه الخاص المراد أقل من غير المراد، والثاني بعكسه.. انظر (البحر المحيط) لـ(الزركشي) 4/ 336 - 338 .
قال أبو عبدالرحمن: الفروق المذكورة إنما تعرف بعد قيام دليل على أن المراد تخصيص العموم، أو أن المراد خصوص جاء بلفظ العموم؛ ويظل الأصل الحمل على العموم حتى يقوم دليل على أن المراد تخصيص العموم، أو خصوص عموم، ولم يمثّل لخاص يحمل على خصوصه؛ ومثاله اسم الجنس إذا دخلت عليه (أل) التي للعهد كالعهد الذكري في قول الله سبحانه وتعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (سورة المزمل/ 15 -16]، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى،
والله المستعان.