د.سالم الكتبي
كثيرة هي الإشارات والدلائل على تباين المواقف بين الجانبين الأوروبي والأمريكي حيال التعاطي مع الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع مجموعة «5+ 1» في عام 2015، وعلى الرغم من أن الموقف الأوروبي لا يدعم العقوبات الأمريكية المشددة فإنه لا يحظى بقبول إيراني، بل يواجه بتهديدات متواصلة من جانب نظام الملالي الإيراني! والأمر لا يقتصر على ذلك، فقد كشف اجتماع عقد مؤخرًا في فيينا بين مبعوثي الدول الموقعة على الاتفاق النووي (عدا الولايات المتحدة) وإيران، عن وجود تباين عميق على مستوى آخر بين الدول الخمس الأخرى الموقعة على الاتفاق (الثلاثي الأوروبي: فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وكل من الصين وروسيا)!
بالنسبة للموقف الأوروبي، فقد قالت وزارة الخارجية الألمانية مؤخرًا إن برلين ترفض السياسة الأمريكية القائمة على ممارسة أقصى الضغوط على إيران، وقال المتحدث باسم االخارجية الألمانية، راينر برويل: «لا نؤيد سياسة الضغط الأقصى التي تمارسها الولايات المتحدة تجاه إيران، ونواصل العمل على إنقاذ خطة العمل الشامل المشتركة (الاتفاق النووي) وإعادة إيران إلى تنفيذ التزاماتها».
واللافت أن هذا الموقف الألماني قد جاء بعد أن رفضت إيران للمرة الرابعة على التوالي تنفيذ التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وأصرت على تنفيذ إستراتيجية التقليص التدريجي لالتزاماتها بموجب الصفقة، ردًا على انسحاب إدارة الرئيس ترامب من الاتفاق وإعادة العقوبات على طهران، حيث بدأت إيران استخدام أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم في منشأة «فوردو»، فيما تنص بنود الاتفاق النووي على إلا تستخدم إيران لهذه الأغراض سوى منشأة «نتانز» النووية.
بعد صدور هذا الموقف الألماني، قال وزير خارجية فرنسا ايف لو دريان، الذي حاولت بلاده بحماس كبير التوسط بين نظام الملالي والولايات المتحدة، ولمست حجم التشدد والتهرب الذي يبديه الملالي، وأدركت أن التفاوض مع القادة السياسيين الإيرانيين ليس مجديًا في ظل هيمنة رأس هرم السلطة المرشد الأعلى علي خامنئي على بوصلة القرار السياسي والعسكري في البلاد، قال لودريان إن مسألة تفعيل آلية فض النزاع المنصوص عليها في الاتفاق النووي مع إيران، التي قد تؤدي إلى توقيع عقوبات دولية باتت قيد البحث ردًا على انتهاكات إيران المتكررة لالتزاماتها في الاتفاق.
والواضح أن فرنسا تقترب تدريجيًا من التعامل بالحزم المطلوب مع النظام الإيراني، حيث قال وزير الخارجية للبرلمان الفرنسي «يجب أن أقول إن جهود وقف التصعيد التي حاولنا القيام بها، التي بذلها رئيس الجمهورية (الفرنسية) عدة مرات، لم تؤد إلى أي شيء لعدة أسباب، لأنه من جانب السلطات الإيرانية كان هناك انتهاك لبنود خطة العمل الشاملة المشتركة. كل شهرين، تظهر علامة جديدة (من جانب إيران).. اليوم يبرز سؤال، أنا أقول هذا بوضوح، حول تطبيق آلية فض النزاعات المنصوص عليها في هذه الاتفاقية»، ولكن يبدو أن الأمر لم يصل إلى حد الإجماع والتلاقي بين المواقف الأوروبية، وموقفي كل من الصين وروسيا من ناحية ثانية.
والمعروف أن آلية حل الخلافات المنصوص عليها في الاتفاق يمكن أن تؤدي إلى إحالة الملف إلى طاولة مجلس الأمن الدولي بما قد يفتح الباب أمام إعادة فرض عقوبات دولية على إيران، وهذا ما يدفع الصين وروسيا إلى معارضة تفعيل هذه الآلية.
الحاصل الآن أن الثلاثي الأوروبي يريد استخدام آلية حل الخلافات لإجبار النظام الإيراني على الانصياع وتنفيذ التزاماته المنصوص عليها في الاتفاق، بينما ترى روسيا أن الأولوية الآن لوحدة مواقف بقية الأطراف الموقعة على الاتفاق مع إيران في مواجهة النهج الأمريكي في التعامل مع إيران، وهو ما عبر عنه سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي بالقول إن ذلك سيثير مزيدًا من التفرقة بين الأطراف المتبقية في الاتفاق النووي، في حين أن «الأمر الأساسي هو ضمان وحدتها وتوحيد جهودها من أجل التصدي الجماعي لخط واشنطن المدمر». بينما قال المبعوث الصيني «ينبغي أن تحجم جميع الدول عن اتخاذ إجراءات تزيد الوضع تعقيدًا.
في ظل هذا الوضع أصبح هناك 3 مواقف داخل مجموعة «5+ 1» التي وقعت الاتفاق النووي مع إيران، أولها الموقف الأمريكي الذي غادر الاتفاق وقام بفرض عقوبات أحادية غير مسبوقة على النظام الإيراني بسبب انتهاك روح الاتفاق النووي والقيام بإجراء تجارب صاروخية فضلاً عن استغلال الاتفاق في فرض الهيمنة وبسط النفوذ إقليميًا بما يهدد الأمن والاستقرار. وثانيها موقف الثلاثي الأوروبي (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) وهو موقف يريد الحفاظ على الاتفاق الحالي رغم إقراره بعيوبه وثغراته، ولكنه يريد أيضًا امتلاك القدرة على الضغط على النظام الإيراني لإجباره على الجلوس على مائدة التفاوض من أجل التوصل لاتفاق جديد، أما الموقف الثالث فهو موقف الصين وروسيا وهو موقف داعم للنظام الإيراني ليس اقتناعًا بقانونية موقف الملالي بقدر ما هو تجسيد للرغبة في معارضة النهج الأمريكي في إدارة العلاقات الدولية من ناحية وفي استخدام العقوبات كأداة رئيسة من أدوات تحقيق أهداف سياسات الرئيس ترامب، وهو ما يواجه برفض حاد من بكين وموسكو اللتين نالهما من هذه العقوبات مانالهما في الفترة الأخيرة لأسباب مختلفة من ناحية ثانية.
في ظل هذا المشهد الدولي المنقسم حيال التعامل مع إيران، فإن نظام الملالي يكتسب مزيدًا من القوة والجرأة لأنه يستشعر أن الخطر الحقيقي يمكن أن يتمثل في وحدة الصف الدولي ضده، وفي ظل استمرار هذا الانقسام فإن تعرض النظام الإيراني للخطر لا يزال بعيدًا خصوصًا بعدما لمس من تردد إدارة الرئيس ترامب وتفاديها تمامًا أي خوض أو نقاش حول سيناريوهات الرد العسكري على التهديدات الإيرانية، وهذا ما يفسر تكاثر التهديدات المتداولة إعلاميًا على لسان قادة الحرس الثوري الإيراني بشأن الانتقام من دول وأطراف إقليمية ودولية بعينها! وبالتالي فإن غياب إستراتيجية دولية موحدة في الرد على التهديدات الإيرانية يمكن أن يتسبب في مزيد من الاضطراب والفوضى سواء من خلال ميل النظام الإيراني لمزيد من الاستفزازات بشكل تصعيدي بهدف إجبار القوى الكبرى على الضغط على الولايات المتحدة لرفع العقوبات أو إيجاد طريقة لتخفيف الضغوط عن الاقتصاد الإيراني، أو من خلال اندلاع أزمة جراء سوء الإدراك أو الحسابات العسكرية الخاطئة في منطقة تحول حساسيتها وأهميتها الإستراتيجية دون البقاء على حافة الهاوية.