د. إبراهيم بن عبدالله المطرف
سجلت السنوات التي سبقت مجيء الرئيس أوباما إلى الحكم، الكثير من الانتقادات الحادة والحملات اللاذعة ضد السياسات الخارجية لإدارة الرئيس جورج بوش الابن، تلك السياسات التي أدت إلى عزلة الولايات المتحدة عالمياً، داعية إلى رسم «سياسات دبلوماسية عامة جديدة» لإظهار الوجه الحقيقي للولايات المتحدة. وقد جاءت بعض تلك الانتقادات من مسئولين قضوا سنوات طويلة في خدمة السياسة الخارجية الأمريكية.
وعند وصول الرئيس باراك أوباما لسدة الحكم، نادى بضرورة العمل على توطيد أواصر العلاقات مع مختلف الدول عبر منهج دبلوماسي منظم، يقوم على الحوار وتبادل وجهات النظر. وفي إطار تفسير ذلك النهج السياسي الجديد، أجريت العديد من الدراسات، حول الدبلوماسية الأمريكية العامة، كان من بين أهمها، الدراسة التي أصدرها «مركز الدراسات الإقليمية والدولية» في جامعة جورجتاون في العاصمة واشنطن، تحت مسمى «الدبلوماسية الأمريكية العامة ما بعد فترة رئاسة بوش» وذلك بهدف تدشين مرحلة جديدة في تاريخ الولايات المتحدة، تسعى إلى تحسين وضع الولايات المتحدة ومكانتها العالمية، التي كانت قد تشوهت نتيجة نهج إدارة الرئيس بوش الإبن، القائم على عنصر القوة، كأساس لحل القضايا الدولية.
وقد بنيت الدراسة من جهة على فرضية مفادها «أن الولايات المتحدة قد فقدت مكانتها وتدهورت صورتها في العالم، كدولة تسعى لحماية قيم ومبادئ عالمية، ما أثر بشكل ملحوظ على نفوذها الدولي». وأكدت من جهة أخرى، على ضرورة قيام الرئيس أوباما، بعملية دمج بين الأقوال والأفعال للولايات المتحدة، كدولة كبرى تسعى لنشر قيم عالمية، رغبة في استعادة الولايات المتحدة مكانتها الدولية.
وأيدت الدراسة في الوقت نفسه، ضرورة أن تقوم الولايات المتحدة، بأفعال تساند ما تنادي به من مبادئ، مؤكدة على أن نجاح الدبلوماسية الأمريكية، لا يتوقف عند المناحي السياسية، بل يتعدى ذلك ليشمل مجالات أخرى كالإعلام، والثقافة والتقنية والتعليم، أي أن تعمل الولايات المتحدة على استخدام كل الوسائل، التي تستطيع من خلالها تقديم رؤيتها الخاصة للعالم.
وانتهت الدراسة إلى مقترح موجه لإدارة الرئيس أوباما، مفاده أن تعمل الإدارة على تعديل أسلوب تطبيق الإستراتيجية الأمريكية، بالعدول عن فكرة استخدام القوة المفرطة في حل الأزمات، وإحلالها بصيغة دبلوماسية جديدة تقوم على ثنائية الإقناع، والاحترام المتبادل، ما يسهم في تحسين صورة الولايات المتحدة. وأن تعتمد الإدارة على الدبلوماسية العامة، لأن ذلك سيمكنها من تحسين الصورة الأمريكية عالمياً، مع تدشين «هيئة مستقلة» للقيام بتنفيذ مهام الدبلوماسية العامة.
وأطلقت الدراسة على الهيئة المقترحة اسم «منظمة الثقة بين الولايات المتحدة والعالم - The US-World Trust - واعتبرتها مرتكزاً لكافة الجهود والمبادرات المتعلقة بالدبلوماسية العامة، بحيث تتخطى العوائق البيروقراطية، التي يتسم بها نشاط المؤسسات الحكومية من جهة، والارتقاء فوق الخلافات الحزبية السياسية، التي تجعل استمرار المشروعات مرتبطاً باستمرار حزب معين في السلطة، مؤكدة على أن نجاح تلك الدبلوماسية العامة للولايات المتحدة، يرتبط بإحداث شكل من الترابط بين الأقوال والأفعال، وبالتركيز على الانخراط مع الآخرين، في علاقات معهم وليس توجيهم، والاهتمام بالعنصر الثقافي في العمل الدبلوماسي.
وقد حددت الدراسة عدة أهداف محورية لتفعيل الدبلوماسية العامة، يأتي من بين أهمها: تقديم صورة أكثر دقة ومصداقية عن الولايات المتحدة والشعب الأمريكي وترويجها عالمياً، وإقامة علاقات شراكة وثيقة مع مؤسسات المجتمع المدني في مختلف دول العالم، واستقطاب المتميزين من الأمريكيين والمنظمات غير الحكومية للإسهام بخبراتهم في تفعيل الدبلوماسية الأمريكية العامة، والاستعانة بالخبراء للاضطلاع بمشروعات بحثية تحقق أهداف الدبلوماسية الأمريكية العامة، واستخدام الوسائل الملائمة لقياس مدى تحقيق الدبلوماسية العامة لأهدافها، وخاصة ما يتعلق منه بتحسين صورة الولايات المتحدة في الخارج، وتعزيز قدرة المؤسسات ذات العلاقة بالدبلوماسية العامة على التواصل الدولي.
كما اقترحت الدراسة أن يسند إلى الهيئة المقترحة قيادة تفعيل الدبلوماسية العامة، من خلال سياسات عامة تتعلق بتمويل المبادرات، وتأسيس المشاريع المشتركة بين الهيئة والمؤسسات الأجنبية، وتقديم الدعم لقادة الرأي العام في المجتمعات الأجنبية بهدف ترسيخ قيم مشتركة مع الولايات المتحدة، وتقديم المنح الدراسية التي تساعد على تعزيز التبادل الطلابي بين الجامعات الأمريكية ونظيراتها في باقي أرجاء العالم، والاستفادة من تقنية المعلومات ووسائل الإعلام، في تطوير التواصل مع الشعوب.
لقد كانت الولايات المتحدة سباقة في تطبيق «نظرية الدبلوماسية العامة» ولها في ذلك تجارب عديدة. ففي منتصف الحرب العالمية الثانية، أنشأ الرئيس ترومان (Truman) ما سمي بـ «لجنة المعلومات الشعبية العامة» والتي كانت تهدف إلى إقناع العالم بنبل السياسة الخارجية الأمريكية. وفي عام 1941 أي خلال الحرب العالمية الثانية، أنشأ الرئيس روزفلت (Roosevelt) ما سمي بـ «خدمة المعلومات الخارجية» والتي كانت تبث الأخبار المؤيدة للولايات المتحدة في كل من أوروبا وآسيا، تصدياً للدعاية اليابانية والألمانية.
أما في عام 1950، فقد أطلق الرئيس ترومان «حملة الحقيقة» والتي هدفت لتثقيف الشيوعيين بالقيم والفكر الغربي لمحاربة الشيوعية. وفي عام 1953، أسس الرئيس إيزنهاور (Eisenhowr) خلال الحرب الباردة «وكالة الاستعلامات الأمريكية» والتي كان الهدف الرئيس من تأسيسها، فهم الرأي العام الأجنبي والتأثير فيه.
وقد نجحت الولايات المتحدة، من غرس القيم والعادات التي من شأنها تغيير فكر الشعوب، التي كانت تدور في فلك موسكو، نحو الثقافة والفلسفة الأمريكية في الحياة. ولعبت تلك المحاولات دوراً بارزاً في انتصار المعسكر الغربي في الحرب الباردة على الاتحاد السوفييتي.
وأخيراً، ولتحسين صورتها في منطقة الشرق الأوسط، قامت الولايات المتحدة في التسعينيات، وفي إطار برامج دبلوماسيتها العامة لتحسين صورتها في العالم، بالتأسيس لعدد من المحطات الإذاعية كراديو سوا، والقنوات الفضائية كقناة الحرة، ومجلة هاي الموجهة للشباب باللغة العربية.
ولا يزال العالم في انتظار ما ستسفر عنه، برامج إدارة الرئيس ترامب في مجال الدبلوماسية الأمريكية العامة.