فوزية الجار الله
(لا أمقت شيئاً في هذه الدنيا بقدر ما أمقت فكرة البيوت المستأجرة، بيوتنا هي أوطاننا الصغيرة، فكيف تكون أوطاننا مستأجرة؟! كيف نطرح أنفاسنا وضحكاتنا ودموعنا ولحظات حياتنا كلها في مكان يجب أن ندفع إيجاره في نهاية الشهر وإلا طردنا منه؟! كيف نكون بشراً على هذه الأرض ونحن لا نملك ما تملكه النحلة والنملة ودودة الأرض؟ تقول آسيا زوجة فرعون، رب ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة، حتى في جنة الخلد نحتاج كبشر إلى أربعة جدران...) - ديك الجن -.
ثمة فكرة أو أكثر استيقظت في ذاكرتي، تنهدت، تمددت، جالت وطافت، كنت أحاول مهادنتها حين صافحتني هذه السطور أعلاه التي تفيض بالمفردات والمعاني المضيئة والعميقة، بحثت عن كاتبها فوجدتها بتوقيع شخص يدعى «ديك الجن» ظننته - بادئ ذي بدء - الشاعر المعروف في تراثنا الأدبي الذي يحمل الاسم ذاته، لكن يبدو أسلوبه وما بين سطوره شديد الحداثة، إذاً هو اسم شخص مستعار ينتمي لزمننا الحاضر..
لا أدري لماذا تبدو مفردة «جني» مفردة مثيرة ولافتة، أما جِنْ، مفردها جني وتعريفها حسب المعجم اللغوي «خلاف الإنس، سُمُّوا بذلك لاستتارهم عن النَّاس وهم مخلوقات خفيّة من النار»، ذلك الاسم ذكرني بديك الجن المعروف في تراثنا العربي.. وهو شاعر مجيد، متألق، ينتمي للعصر العباسي، وهو من مدينة حمص، يقال إنّه عاش ما يزيد عن سبعين عامًا، ما بين عامي 778 و 850 للميلاد.
وقُد اختلفت الروايات الواردة في سبب تسميته بهذا اللقب، فقيل إنَّ سبب تسميته بديك الجن عائدٌ إلى أنّه كان صاحب عينين خضراوين تشبهان ألوان الديك، وقِيل أيضًا إنّه سُمِّي بهذا الاسم لرثائه ديك أبي عمرو بن جعفر، ومنهم من اتهمه بالجنون وقال إنّه كان مجنونًا يُقلِّدُ صوتَ الديك، إلا أن تهمة الجنون تهمة باطلة حيث لم يكن مجنوناً يوماً وإنما هو شاعر من فحول الشعراء..
كان شعره حديث أهل العراق وقد تزوج بفتاة اسمها «ورد» بعد قصة حب نشأت بينهما، انغمس كثيراً في الملذات والشهوات فكان ذلك سبباً لفقدان ماله فأصبح فقير الحال. عندها ارتحل خارج البلاد في محاولة لطلب الرزق مرة أخرى، خلال تلك الفترة سمع بأن زوجته قد خانته، فعاد إلى البلاد وسارع بقتلها وقال في ذلك أكثر من قصيدة منها:
خُنْتِ سِرِّي مُوَاتِيَهْ
وَالْمَنَايَا مُعَادِيَهْ
خُنْتِ سِرِّي ولَمْ أَخُنْكِ
فَمُوْتِيْ عَلانِيَةْ
بعد ذلك علم ببراءة زوجته مما نسب إليها، فندم ندماً شديداً وأخذ يبكيها شهراً بأكمله، وقد قال في ذلك:
يا طَلْعةَ طَلَعَ الحمَامُ عليها
وَجَنَى لَهَا ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْها
رَوَّيْتُ مِنْ دَمِها الثَّرى ولَطالَمَا
رَوَّى الْهَوَى شَفَتَيَّ من شَفَتَيْها