د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
دعوني أبدأ بملاحظتين: الأولى هي أنه عندما يتعلق الأمر بالتعليم والصحة فلا مكان للمجاملة لأنهما في جميع الدول والدساتير والأعراف حقان مكفولان للمواطن ولهما الأولوية فوق أي اعتبار أو خدمات أخرى. والثانية: لهذا السبب، الأهمية الحيوية للتعليم والصحة، فيتوجب على المسئولين عنهما التعامل معهما بقدر كبير من المسئولية والاهتمام لأن الأخطاء في هذين المجالين لها تبعات وتشعبات مكلفة، وعليه فلا يمكن أن يتركا كحقل تجارب متتابعة مكلفة للوطن والمواطن.
من اليوم الأول لتأسيس المملكة، ومن اليوم الأول لدخولي المدرسة قبل خمسين عامًا، وأنا أسمع عما يسمى «بتطوير التعليم»، واليوم وبعد التقاعد مازلنا نتكلم عن تطوير التعليم، والغريب أن هناك شبه إجماع بأن تعليمنا بشقيه العالي والعام لم يتطور بالشكل الذي نتمناه. على مستوى ما يسمى بالتعليم العالي قبل أكثر من أربعين عاماً جلبت الجامعة 15 برفيسوراً أمريكياً لتطوير الجامعة ورحلوا ولم يتم الأخذ بتوصياتهم، بل تركوا خصامًا جديًا بين مسئولي الجامعة -آنذاك- حول تفاصيل الزيارة في أمور كلها تتعلق بما خاله البعض منهم «بريستيجه الشخصي». بنت الدولة فيما بعد مدنًا جامعية ضخمة بمليارات الدولارات وعلى أعلى «مواصفات عالمية» واكتشفت الجامعات لاحقًا أن لا تستطيع تشغيل بعض مرافقها لكلفتها وتعقيدها وبقيت المرافق الباهظة الثمن معطلة حتى تجاوزاتها تقنيات جديدة. ضخت الدولة مبالغ أخرى فطار بها البعض في برامج افتراضية، وصور حائطية و»بنارات» وشعارات مثل «بناء مجتمع المعرفة»، و»الاعتماد»، و»التصنيف العالمي»، وأمور أخرى كلفت الوطن أموالاً طائلة وتلاشت فيما بعد وبقي كل شيء على حاله.
وكثير منا يذكر مراحل تطوير التعليم العام من مرحلة وجبات الطالب التي استوردت من أجلها معلبات من أوروبا ولبثت لعام دراسي ثم اختفت نتيجة لسوء تقدير في كلفتها وجدواها. ثم أتت مرحلة كمبيوتر لكل طالب وانتهت ولم يدخل الكمبيوتر للمدارس فطوى النسيان المشروع، ثم اعتقدنا أن علة طلابنا هي عدم إلمامهم باللغة الإنجليزية فدخلنا لمشروع مع ماكميلان لإعداد مناهج لغة إنجليزية خاصة بنا، اشترطت فقط أن يكون الشخوص فيها ملتحين والنساء محجبات، وألا يكون فيها كلمات تدل على موبقات كالخمر، أو السينما وغيره، مناهج يمكن وصفها بلغة اليوم ذات ملامح «صحوية». اتضح فيما بعد كل هذا الجهد والمال أن مربط الفرس ليس في المناهج بل في إيجاد مدرسين، فاقترح البعض مدرسين من دول آسيوية وتعذر ذلك أيضًا، فطوى النسيان المشروع، وأعقب ذلك على مدى عقد من الزمن محاول لتطوير المسئولين عن التعليم فبدأت مرحلة الرحلات المكوكية المتواصلة: شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، للدول كافة التي خلناها متقدمة للاستفادة من تجاربهم، فتكاثرت الضباء على خراش ولم يعرف مسئولونا من أيها يقتبسون فبقي تعليمنا كما هو. ثم أتينا بوزير سبق وكتب كتابًا مخصصًا لنقد التعليم وسلمناه ناصية ما انتقده فدخلنا في مرحلة قياسات واختبارات ومقارنات أسسها خاطئة لأن بيئاتها وسياقاتها متنوعة ثم عدنا للمربع الأول. باختصار عمليات تطوير التعليم بفئتيه العليا والعامة كانت أشبه بالخط في الرمل حيث يمحو تمامًا كل مسئول جديد ما بناه صاحبه قبله. فما العمل؟
في نظري فإن علينا نسيان مفهوم ما يسمى «بتطوير» التعليم، التي في غالب الأحيان تتلبس لبوس رومانسية وتتخذ خطوات تجريبية مكلفة جدًا جدواها الحقيقية متواضعة، وتتقاطع في بعض الأحيان مع نرجسية بعض المسئولين، وأن نركز عوضًا عن ذلك على مفهوم «تحسين التعليم» أي تحسين الموجود حالياً قبل التفكير بتغييره أو تطويره. تحسين بيئة المدارس بالتأكد من ملاءمتها لراحة الطلاب: سعة المباني وملاءمتها لصحة أبنائنا وراحتهم: تكييف، مرافق بما في ذلك دورات مياه نظيفة. تحسين مستوى المدرسين والتأكد من صلاحيتهم للتعليم واستبدال غير المؤهلين منهم أو إعادة تأهيلهم. تعديل نسبة المعلمين لعدد الطلاب بحيث نقضي على تكدس الطلاب في الصفوف. مراقبة المدارس الخاصة بشكل أدق والتأكد من أنها تهتم بالتعليم قدر اهتمامها بالمال.. الخ.
أما فيما يتعلق بالتعليم الجامعي فالدولة لم تقصر ووفرت كل شيء تحتاج إليه الجامعات وأكثر، ولكن يبقى مربط الفرس في تدهور ما يسمى «بالأخلاق الأكاديمية» وتفشي الأخلاق النفعية بشكل مخجل مكانها.
ومربط فرس إصلاح التعليم الجامعي هي المكتبات الجامعية، وأن تلعب المكتبات دورها الطبيعي في الجامعات، فتمنح المكتبات الأهمية القصوى فوق الندوات والاحتفالات والمؤتمرات الاستعراضية. فالمكتبات هي أساس التعليم في الجامعات ولكن وللأسف دورها هامشي في جامعاتنا. فكثير من أعضاء هيئة التدريس وليس الطلاب فقط ينهي مرحلته الجامعية وقد يترقى وهو لم يدخل المكتبة. فالجامعة هي المكتبة، والمكتبة هي الجامعة. وأول عادة يدرب عليها الطالب فور دخوله الجامعة هي ارتياد المكتبة باستمرار والبحث فيها، ولكن في حالتنا نحن ونتيجة لغياب العمل الجاد والمراقبة الحقيقة حلت مكانها مكاتب خدمات الطالب.