الموتُ حقٌّ، ولاَ ينجُو منهُ مخلوقٌ، وصدقَ اللهُ العظيمُ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرحمن 26- 27). الموتُ مصيرُ كلّ حيّ ولا يستطيعُ أحدٌ لهُ ردًّا أو دفعًا أو تأخيرًا، قالَ اللهُ جلّ وعَلَا: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف الآية 34).
فلو كان يُفدى بالنفوسِ وما غلا
لطبنا نفوساً بالذي كان يطلب
ولكن إذا تمّ المدى نفذ القضَا
وما لامرئٍ عمّا قضى الله مهرب
لكلّ اجتماعٍ من خليلينِ فرقة
ولو بينهم قد طابَ عيش ومشرب
وفي هذا اليومِ الخميس ودّعنا الوالدة الغالية الصابرة المحتسبة -نورة عطا الله العطا الله- جدةُ أبنائي، رحمها اللهُ رحمةً واسعةً.
وقد عرفتُ فيها المرأةَ العاقلةَ الحصيفةَ التي تزنُ الأمورَ بميزانِ العدلِ والعقلِ، توجيهًا لبناتِهَا وأحفادِهَا، وحرصًا عليهمْ، تتابعُ الصغيرَ قبل الكبيرِ، والذكرَ والأنثى، تتابعُ الجميعَ في الحضرِ والسفرِ، كلّ من سافرَ من أحفادِهَا، تتابعُهُ حتى يصلَ إلى مكانِ سفرِهِ، ولا يهنأُ لهَا بالٌ إلّا إذا اجتمعَ أحفادُها عندَها، وهُنَا تملأُ السعادةُ قلبَها، وترى آثارُ ذلكَ على وجهِهَا. وقد اعتادَ الأحفادُ الذُّكُور اللقاءَ عندَهَا مغربَ كلّ يومٍ مع أمهاتهم، وهُنَا لَا تَسَلْ عنْ فَرَحِهَا وسُرُورِهَا وتَفَقُدِهَا لِمَنْ غَابَ مِنْهُم.
يكونُ معي أولادي أحيانًا في السَّفَرِ، فأُشْفِقُ عليهَا منْ شِدّةِ متابعتِهَا لهمْ، وكثرة اتّصالها حتى تطمئنّ على وصولهِم إلى مكانِهِم المقصود، وتطلبُ الاتصالَ بها عند وصولهم ولو كان آخرَ الليلِ في وقتِ نومِهَا وراحتِهَا.
أذكرُ أنَّهُ دارَ معهَا حديثٌ قبلَ أربعينَ عامًا حولَ الأولادِ فقالتْ: لمْ يرزقني الله بولدٍ ذكر. فقلتُ لهَا: لعلّ الله أنْ يرزقك من بناتِكِ منْ يعوّضك عن ذلك، وفعلًا وللهِ الحمدُ، رأيتُ ذلكَ في أحفادِهَا الذّكور من بناتِهَا، فكلُّهم يتسابقونَ لخدمتِهَا وتقديمِ حاجاتِهَا على حاجاتِ أنفسهِم، وقدْ قرّت عينها بذلكَ خلالَ ربعِ قرنٍ مضَى.
أسعدُ كثيرًا إذَا رأيتُ تسابقَ الأحفادِ في رعايتِهَا صحيًّا في مستشفى الزُّلْفِي، أوْ مستشفياتِ الرِّيَاض، لأنَّ المُرَاجَعَةَ لهَا دورية ومتكررة، وهذا توفيقٌ من اللهِ لهم.
كانتْ كثيرًا ما تردّدُ (أسألُ الله ألّا يَتَوَلّانِي الأطباءَ في آخرِ حياتِي، وأنْ أموتَ دونَ أنْ أكلّفَ أحدًا في رعايتِي والعناية بي)، وقدْ أجابَ الله دعاءَهَا حيثُ نُقِلَت في الإسعافِ بعدَ صلاةِ الفجرِ، وماتتْ قبلَ دخولِ العنايةِ المركّزَةِ.
وكانتْ ليلةَ وفاتها في قمّةِ سعادَتِهَا حيثُ اجتمعَ عندهَا البنات والأحفاد وأحسّوا بعافيتِهَا، ونور وجهِهَا، وتباشَرُوا بذلك، لكنّ قدرَ اللهِ أسرعُ.
وذكر لي ابني محمد -حفظه الله- أن مما تصف به والدته مما عايشته معها حرصها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأولادها وكل من يزورها.
- سخاؤها وكرمها فلا يكاد يستقر المال في يدها بل تعطي وتنفق بكل سخاء وهذا من أكثر ما يسعدها ويفرحها ويبهجها.
- تعاهدها لعدد من العوائل والأشخاص المحتاجين وحرصها الشديد على سد حاجتهم وعوزهم واستمرارها على ذلك سنين طويلة حتى وفاتها رحمها الله.
- حرصها وإكرامها للعمالة الذين يعملون في الشوارع أو بنيان المنازل المجاورة أو يأتون للعمل في منزلها حيث تعطيهم نقودًا وتعد لهم الوجبات كما تعدها لضيوفها.
- تفتح بابها يوميًا للقريب والبعيد من العصر إلى بعد العشاء يأتيها الناس دون موعد لعلمهم بفتحها لبابها واستعدادها لاستقبالهم استمرت على ذلك حتى وفاتها رحمها الله.
- صبرها وثباتها ويقينها حتى في الأوقات الحرجة، قبل إجرائها لعملية القلب المفتوح كانت هي التي تُصَبّر أبناءها وتطمئنهم.
- كانت تكثر من الدعاء بأن يمتعها الله بقواها حتى وفاتها، فمتعت بها ولله الحمد والمنة.
وذكر لي ابني أسامة -حفظه الله- أنها كانت تساعد بعض النساء اللواتي يتكسبن ببيع بعض الملابس ونحوها، وذلك بأن كانت تأخذ البضاعة فتعرضها على بناتها ومن حولهن، ثم إذا اجتمع عندها مبلغ أعطته صاحبة البضاعة من غير أن تأخذ فائدة عن ذلك، ولكن تحتسب في إعانتهن، ومن يرى حرصها واهتمامها ممن لا يعرفها يظن أن الفائدة لها، وآخر ما كان من ذلك ليلة وفاتها -رحمها الله- حيث كان عندها مبلغ لأحدهن فألحّت على بناتها حتى اتصلن عليها فأخذت المبلغ الذي لها.
وذكر لي ابني أيوب -حفظه الله- قال: في يوم الخميس 24-3-1441هـ ذهبنا إلى المستشفى لإجراء بعض التحليلات وعند رجوعنا إلى منزلها كان مسجد علي الحمران -رحمه الله- على طريقنا فقالت يا ولدي هذا المسجد إذا احتاج للماء عبدالمحسن الحمران يجيب وايت ويملأه وانا أحاسبه، ثم قالت انتبه له وأنا أمك رحمها الله رحمة واسعه.
وقال أيضًا: في يوم 18-3-1433هـ تقرر لها عملية قلب مفتوح وفيها يفتح الصدر، فقال الطبيب: من المتوقع حدوث الوفاة، وكانت رحمها الله مقدمة وتقول: الأمر بيد الله سبحانه فأجريت لها العملية وخرجت كما كانت رحمها الله.
وقال أيضًا: كانت تحرص على هدية الأطفال وكل من زارها ومعه أطفاله تدخل الفرحة عليهم بإعطائهم الحلوى والعلك وغيرها مما يتوفر معها عند سريرها وفي جيبها.
وقال: كانت رحمها الله دائماً تحرص على التستر فلا ترى منها شيئاً وكنا إذا ذهبنا في موعد إلى المستشفى وجلست على الكرسي المتحرك تنظر إلى قدميها وتأمرني بتغطيتها. ومرة وهي في الكرسي المتحرك وعند خروجنا من المستشفى إلى السيارة نزلت العباءة عن رأسها شيئًا قليلًا ولم يظهر شيئ منها فقالت عند قيامها من الكرسي وبعد وضعها للعباءة على رأسها: الله يصلح بعض بنات هذا الوقت كيف يمشين وهنّ غير محتشمات.
وقال أيضًا: كانت تحرص على صديقاتها وتتواصل معهن وتعطيني بعض الأغراض لإيصالها لهن.
هذه بعض المواقف من حياة هذه المرأة الصابرة المحتسبة.
أسأل الله جلّ وعلا أن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وأن يرفع درجاتها، وأن يعلي منزلتها، وأن يجمعنا بها ووالدينا في جنات النعيم. وأن يجعل البركة في ذريتها وأحفادها وإخوانها وأخواتها وذرياتهم وأحفادهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
** **
د. عبد الله بن محمد الطيار - الأستاذ بكلية التربية جامعة المجمعة وعضو الإفتاء بمنطقة القصيم