د. محمد بن صقر
قد يتوقّع القارئ الكريم أن الحديث سيكون عن استراتيجية حرب ومناورات انتصار في ظل اختلال استقرار بعض الأنظمة العربية في المنطقة، ولكن ما نريد أن نورده وأن نتحدث عنه في ظل وتيرة السرعة التي تشهدها بلادنا على جميع الأصعدة، وتسابق كثير من الوزارات والمؤسسات الحكومية نحو التميُّز والابتكار، وطرح مفهوم التنافسية والعمل عليه، هو أننا نجد في المقابل معضلة وتحديًا فكريًّا متأصلاً لدى بعض المسؤولين. وتكمن هذه المعضلة أو التحدي - كما يرغب أصحاب التخطيط الاستراتيجي تسميتها - في أنهم لا يقبلون الأفكار التطويرية الإبداعية، أو المبادرات النوعية، ولا يقبلون التغيير في الروتين الذي دأبوا عليه، وهم دائمًا في تردد وتخوُّف من التجدُّد أو التغيير؛ فأسلوب واستراتيجية عملهم تتمثل في (استراتيجية المحارب القديم) الذي لا يستطيع الحرب إلا في الأرض التي يعرفها، ويفهم تضاريسها ومناخها.. فلا يستطيع المغامرة بدخول معارك بعيدة عن أرضه، قد تكون سببًا لتوسعه ونجاحه؛ فتجده لا يسمح لنفسه بالنظر البعيد، ورسم مستقبل مزدهر؛ فحاجز الخوف الإداري من الفشل والغرق في محيط المعرفة والابتكار يجعله يقف أمام أبواب المغامرة. ونتيجة لذلك فهو يرفض أي فكرة أو أطروحة ابتكارية جديدة، من شأنها أن تغيّر وتطور المؤسسة أو الكيان الذي يعمل فيه. طبعًا ستكون النتيجة الحتمية لمثل هذه العقلية الإدارية الفشل بمفهومه الذي ينتهي ويخرج من مسلسل وفصل الإبداع والإنتاج والابتكار والاستمرارية، وليس بمفهومه التعليمي الذي يستفيد من أخطائه، ويقوم بتحسين الإنجاز وقياس التغذية الراجعة. ولعلي أورد مثلاً كثيرًا ما يُستشهد به في مثل هذه الحالات، وأقصد هنا تلك العقليات التي ترفض التغيير أو التطوير، هو إفلاس شركة «كوداك» العريقة في صناعة الكاميرات والأفلام. فمن أسباب فشل هذه الشركة بعد تاريخ حافل بالنجاحات، يمتد إلى 133 عامًا، وقد كان بإمكانها تجنب ما حصل: أولاً: التناقض بين الاستراتيجية المنطقية والاستراتيجية الابتكارية؛ إذ تركز الطريقة العقلانية على التطبيق الصارم لأساليب حل المشاكل بالمنطق، وبالمعرفة التي اكتسبها المسؤول من جراء خبرته التراكمية، وبالأسلوب والأدوات نفسها. ونتائج ذلك وخيمة.. وهذا ما مارسته الشركة. بينما تركز الطريقة الابتكارية على الحدس والبديهة؛ وهذا يجعل المديرين يستخدمون مهاراتهم الابتكارية والتفكير بشكل غير تقليدي؛ وبذلك يضمون الاستمرارية والبقاء والتنافس.
ثانيًا: التناقض بين التغيير الجذري والتغيير البطيء التدريجي؛ إذ ظهرت المؤشرات في 1981 عندما أعلنت شركة «سوني» أنها ستطرح Mavica، وهي كاميرا رقمية، يمكنها عرض الصور على شاشة التلفزيون، لكن شركة «كوداك» رأت أنه من الصعب تصديق أن شيئًا ما سيكون مربحًا كالأفلام التقليدية التي كانت رائدة بها؛ وكانت النتيجة خروجها من السوق؛ لأنها حاربت أفكار التطوير.. فهناك مقولة ترى أن «الأفكار هي العدو»! وقد نستغرب من ذلك.. وكان الأفضل أن تكون المقولة (الأفكار هي الصديق الوفي).
يُذكر عن نيكولو ميكافيلي، الذي كان مستشارًا لكبار الأغنياء وأصحاب السلطة في القرنين الخامس والسادس عشر في إيطاليا، أنه قال «المبتكر صاحب الأفكار يحصل على عداوات من قِبل أولئك الذين يشعرون بارتياح تحت النظام القديم، بينما يأتي بعض التأييد الفاتر من أولئك الذين ستصبح أوضاعهم أفضل تحت النظام الجديد». والسبب في ذلك - حسب قوله - أن «التأييد الفاتر يعود جزئيًّا إلى أن الرجال متشككون بطبيعتهم بشكل عام، ولا يثقون في الأمور الجديدة إلا إذا اختبروها بشكل عملي». هذا في حال كان هناك تقبُّل، أما إذا كان المسؤول هو المحارب الأساسي للأفكار والتطور فسيكون مصير الكيان الذي يعمل فيه هو الفشل المدوي؛ لأنه اعتمد سياسة المحارب القديم.