المتأمل في قدرة الله وبديع صنعه لا يلبث إلا أن يجد إعجازًا في كل شيء.
فمن هذا الكون الفسيح الذي تتجانس فيه العناصر الكيميائية والفيزيائية، إلى خلق البشر واختلاف ألسنتهم وعقولهم ومداركهم، إلى تنوُّع أساليب الحياة وتغيُّر الظروف وتأثيرها في الخلق، وتناغم تلك الظروف مع حياة البشر، ومعالجة الدين لتلك الحياة، وكيفية التعامل معها.. فمن حزن إلى فرح إلى حزن، وهكذا دواليك. والرجل المسلم المتبصر بدينه بين حمد واسترجاع في سعادة وبؤس..
وبفضل من الله ونِعَمه تمرُّ بنا الظروف، ولا نلبث أن ننسى ونتجاوز بفضل ونعمة من الله.
وقد مرّ بي الكثير من المواقف الحزينة، وأحمد الله على ذلك، وأسأله أن أكون من الصابرين.
وقد كانت وفاة أخي وصديقي الحميدي الفيصل من أشد ما مرَّ بي، بل كانت الأشد والأقوى.. أسأل الله ألا يعقبها إلا بخير.
وعادت بي الذكريات إلى ماضٍ تليد، كنا فيه طلابًا وإخوة وأصدقاء، نجتمع في منزلنا أو منزلهم، سواء كان في الديرة أو البر.. وكنا نسعد بترحيب الوالدتَيْن، بل الأسرتَيْن هنا وهناك، وكنا نتقاسم ما يقع بأيدينا على قلَّته، كما نتشارك المشاعر والعواطف باختلاف الأحداث.
لا يكاد شخص منا ينقطع أو يتفرد برأي أو نزهة أو شأن أو حتى خلاف مع أحد إلا وقد تشاركنا الرأي، وتوحدنا في الاتجاه.
ما كان -رحمه الله- متفردًا برأي، ولا مختصًّا بحصة من رزق ولو كان صيدًا يسيرًا.
ومضت السنون، وكبرنا، ثم انتقلنا للرياض، فجمعتنا الغربة، وعصبتنا الظروف؛ فزادتنا تماسكًا وأخوَّة، وعركتنا الأحداث؛ فوجدت من الانسجام ما يُحكم العقدة، ويُزيدها ثباتًا.
كانت الصداقة بالنسبة له تعني الكثير، وهو الأكبر؛ فكان يترفع عن التدقيق في الهفوات، ولا يعاتب إلا في الوقت المناسب، وبأقل ما يكفي.
كان يتحرج من لوم صديقه على الملأ، ويتحين الوقت المناسب للتنبيه، وكان سلاحه الصمت وإيماء العتب.
كنا في نهاية الأسبوع نبحث عنه في الرياض فيوقف (دبابه)، ويركب بصحبتنا، وكانت الرحلة لا تحلو إلا به.
جمعتنا ظروف المدارس، ثم النادي والمراكز الصيفية، والعمل المشترك.. فما ألفيته إلا رجلاً حريصًا على عمله، مهتمًّا بشأنه، مُعْرضًا عن غيره، متمسكًا بهدوئه ومبادئه، محافظًا على اتزانه..
يغيب عنك وتغيب عنه فيكون سبّاقًا للسؤال، حريصًا على التواصل.. وعندما تعود إليه تجده محتفظًا بحبه ومشاعره.
أصابتني نوبة، وأُجريت لي عملية؛ فكان يتعقبني بالهاتف أكثر من أقرب أقاربي، وعندما عدت إلى بيتي، وعلم، وقف أمام الباب، وقال لي «اسمح لي بأن أنظر إليك وأنت في بيتك»؛ وذلك ليطمئن قلبه.
أما المواقف المادية فحدِّث ولا حرج.. وشهد له بذلك الكثيرون مما لا يُحسن ذكره هنا.
كان - رحمه الله - صموتًا كتومًا، لا يبدي لأحد شكواه مهما بلغت إلا على استحياء مع أقرب الناس، ولعلي الأقرب..
تُوفي والده، ثم والدته، ثم زوجته، وقد أكرمني هو وإخوته بمشاركتهم في تلك المواقف، وعدُّوني أخًا، واعتبرتهم كذلك.. وحانت وفاته؛ فتحاملت، وما إن انتهينا من القبر إلا وقد أجهدني الإعياء؛ فهربت مع بَنيّ لبيتي، لا أكاد أرى الطريق.
وقد ظهرت عليه في الفترة الأخيرة، خاصة بعد وفاة زوجته، آثار ربما كانت القشة التي..
كنتُ قد طلبتُ منه في الفترة الأخيرة أن يُجري بعض الفحوصات؛ لما لاحظته عليه من إرهاق؛ فلمحت في عينيه قبل كلامه استشرافًا لمستقبل لا يلوي فيه على شيء؛ فلُذْتُ بالصمت، ولم يكن بوسعي سواه..
كنتُ من أوائل الحضور في المستشفى عندما بادرته الأزمة؛ فاعتصرني الألم مع كل تنهيدة نفس كان يتنهدها بقوة، وانتقل إلى المجمعة، ثم الرياض، فكان الأمل يضعف حتى تلاشى..
ولئن فجعتنا غيبته فقد سلمنا بقضاء الله وقدره، ورضينا بحكمه.. وعزاؤنا أنه - رحمه الله - كان شابًّا مؤمنًا محبًّا للخير، متصالحًا مع الآخرين، متفانيًا في خدمة أحبابه، باذلاً ما بقلبه قبل ما بيده..
كان محبوبًا، ومقبولاً، حاضرًا في كل مناسبة، متواضعًا للصغار، محبًّا لهم..
حُرم نعمة الأبناء فرُزق محبة الناس؛ فقد كان الكثيرون يتواصلون معي للسؤال عنه فترة مرضه وهم يجهشون بالبكاء، ورأينا جموع المعزين والمصلين؛ وهو ما يجعلنا نرجو له خيرًا ورحمة من رب هو أرحم وأكرم..
هي كلمات جالت بخاطر أخٍ محب لهذا الرجل الطيّب، ولأول مرة أجدني عاجزًا عن التعبير عما بقلبي نظرًا لما أكنُّه له من محبة؛ فقد تعطلت لغة الكلام عن الوصول لما أطمح إليه عندما كان الصديق أخًا ومحبًّا.
أسأل الله له الرحمة والمغفرة.
** **
- عبدالله عبدالعزيز المناع