ولا زالتْ هبات الله تترى
على مثواك كالغيث الهطولِ
ما من شك أن فقد الأحبة والأخيار، وبعدهم عن أبصار مُحبيهم له بالغ الأثر والحزن العميق، كأمثال حبيبنا صافي الود الذي غاب عن الوجود بعد منتصف ليلة الأحد 28-2-1441هـ، متزامناً آخر أيامه من الدنيا مع نهاية شهر صفر 1441هـ بعد حياة طويلة كريمة عاشها في طاعة مولاه، وفي خدمة دينه ووطنه تاركاً أثراً طيباً وذكراً حسناً، وقد أدى صلاة الميت عليه جموعٌ غفيرة رجالاً ونساء بجامع البابطين، داعين له بالمغفرة والرحمة من ربّ العباد، ثم ووري جثمانه الطاهر في مقبرة الشمال بالرياض، في أجواء حزن وأسى على رحيله وبعده إلى يوم النشور، -تغمده المولى بواسع رحمته- وكانت ولادته وإطلالته على الدنيا عام 1343هـ في مدينة المجمعة، فنشأ فيها بين أحضان والديه ومع أخوته ولداته.. في بيئة صالحة تحفها أجنحة اليمن والتآلف والاستقامة، مما كان سبباً مباركاً في بناء شخصيته واستقامته، ثم بدأ حياته مبكراً فدرس في أحدى مدارس الكتّاب لتعلم الكتابة وقراءة القرآن الكريم وحفظ ما تيسر من سوره.. وكان يتصف بالذكاء وهدوء الطبع وسرعة الحفظ، بعد ذلك أخذ يسمع ما يقرأه بعض أئمة المساجد من كتب نفيسة مثل كتاب رياض الصالحين، وغيرها التي عادة ما تُقرأ بعد صلاة العصر، وقُبيل صلاة العشاء في كثير من المساجد في تلك الحقبة الزمنية تثقيفاً للعامة وتنويراً لأذهان الشباب.. فبدأ الشيخ عثمان (أبو محمد) في ملازمته لحلق مشايخ المجمعة المعروفين في ذلك الزمن -رحمهم الله جميعاً-, ومن تلك الحلق المباركة السعيدة تَحَبَبَ إليه الأبحار في بطون الكتب المفيدة الشرعية والأدبية، فأصبحت منهلاً عذباً يغترف من حياضها درراً من الحكم والأمثال وأجمل العبارات، مع إيناسه وولعه في اقتناص نفائس الكتب من مضانها داخلياً وخارجياً.., وهذا هو شأن شقيقه حبيبنا وزميلي الراحل الأستاذ الأديب عبدالله (أبو خالد) الذي قضيت معه أحلى أيام حياتي في جميع مراحلنا الدراسية:
حبيب عن الأحباب شطت به النوى
وأي حبيب ما أتى دونه البعدُ
-رحمهم الله رحمة واسعة-، ولقد تقلب الشيخ عثمان في عدد كبير من المواقع المشرفة.. حيث كان مديراً للمدرسة السعودية بالمجمعة، ثم مديراً للمعهد العلمي بالمجمعة، وكان إلى جانب ذلك إماماً وخطيباً مفوهاً في الجامع الكبير بمدينته (المجمعة) وغير ذلك من الأعمال الجليلة:
فهو كالبدر من حيث ألتفت رأيته
وضوؤه للعصبة السارين جِدُّ قريب
كما كان مديراً لرئاسة القضاء ومديراً عاماً لمكاتب أصحاب المعالي وزراء العدل، وكان ذا أناة وروية ورأي سديد، فقد أُسند إليه اختيار بعض الطلاب النابهين والمتفوقين من منطقته للدراسة في دار التوحيد بالطائف التي أسسها جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- أسماها (دار التوحيد) لطيب الأجواء هناك ولبعد الطلاب عن مشاغل أهليهم، وتُعد من أوائل المدارس العلمية الشرعية واللغة العربية، وقد وُكّل بالأشراف عليها مدير المعارف -آنذاك- فضيلة العلامة محمد بن عبدالعزيز بن مانع -رحمه الله رحمة واسعة-، ثم طلب الشيخ محمد المانع أول بعثه مُعارة رسمية من إدارة الأزهر بمصر لتولي التدريس بها، وبكلية الشريعة واللغة العربية بمكة المكرمة لمن يتخرج منها بأمر من جلالة الملك عبدالعزيز، فهم نخبة مختارة من فطاحل علماء الأزهر، ولسان حال كل من درس في هاتيك الأجواء الجميلة يتمثل بهذا البيت:
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أحسن المصطاف والمتربعا
وعندما انتقل من مدينة المجمعة إلى مدينة الرياض، توسع في حياته العلمية والثقافية، وفتح بابه لاستقبال من يؤمه من علماء وأدباء، وله جلسات خاصة فمجلسه بمنزلة الصالون الأدبي يحضره الكثير من أسرته ومعارفه، فهو محبوب لدى الجميع لما يتمتع به من خلق كريم وأدب جمّ رفيع، ومما يؤثر عنه أنه يقرض بعضاً من يقصده، ثم يعفو عن المعسر بنفس راضية احتساباً لما أعده المولى للمحسنين ولله در الشاعر:
ومن غرست يداه ثمار جودٍ
ففي ظل الثناء له مَقِيل
فلقد عاش أبو محمد حياة سعيدة كلها خير وبركة، وكأني به يرد على من يستكثر سخاءه وكثرة إنفاقه في أوجه البر والإحسان وصلة الأرحام، بهذا البيت:
يفنى الذي تركوه من ذخائرهم
وما تركنا على الأيام مُدخرُ
وبحمد الله سيدخر لأبي محمد وتضاعف له الحسنات والأجر الجزيل، ومما حزّ في نفسي مشاهدتي شقيقه بدر -أبو فهد- الأستاذ الأديب وهو يكفكف دمعات عينيه تحسراً وتأسفاً، ولسان حاله في تلك اللحظات الموجعة لقلبه يردد في خاطره معنى هذا البيت:
تتابع أخوتي ومضوا لأمرٍ
عليه تتابع القومُ الخيارُ
كان الله في عونه، وعون أبنائه وأسرته، ولقد استقيت واستعنت في مقالي هذا ببعض النصوص من الكتاب الضخم الذي أعده الدكتور الأديب الوفي عبدالله بن محمد الزازان (أبو الوليد) عن حياة وسيرة حبيبنا الشيخ الفاضل عثمان بن حمد الحقيل -أكثر الله من نضرائه- تغمد الله الفقيد وعقيلته أم محمد بواسع رحمته، وألهم شقيقه بدر وأبناءه وبناته وأبناء إخوته، وحرمه أم عبدالإله وأسرة آل حقيل الصبر والسلوان.. مختتماً بهذا البيت:
قضيتَ حياة ملؤها البر والتقى
فأنت بأجر المتقين جديرُ
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء