حمّاد السالمي
«ألا.. ما أكثر النزاعات والخلافات والفتن التي هي في ديار العرب اليوم. مظاهرات. قتل وتخريب وتشريد، في العراق؛ وفي سورية ولبنان واليمن وفلسطين. وتتكرر هذه المشاهد المؤسفة؛ في ليبيا والجزائر والسودان. الكل يشكو من ظلم وتعسف أخيه الذي يشاركه العيش في الوطن الواحد. والكل يرفع شعارات الرفض لهذه الحكومة، أو الكره لذاك الحزب أو تلك الفئة ويقول: (ارحل.. ارحل)..! هل ضاقت الأرض بمن حملت..؟ أم ضاق الإنسان بأخيه الإنسان؛ حتى لم يعد للآخر مكان..؟
«ما بخلت أرض على أهلها يومًا من الأيام، ولكن أهلها بخلوا وبخسوا وجاروا. هذا ما يعلمنا إياه التاريخ على مر العصور. لو تعايش البشر في حب وسلام، وعرفوا أنهم إخوان (خِلْقة) كما أراد لهم الخالق عز وجل ابتداءً قبل الأديان والمذاهب والقوميات.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}. من نفس واحدة.. لو أنهم عرفوا ذلك جيدًا؛ لما جاعوا ولا جاروا ولا احتاجوا إلى سفك دماء بعضهم البعض، ولكن.. إنه الشر الذي يأبى إلا أن يكون هو الحاكم والمتحكم في النفس البشرية، التي أخبر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، فالشر تقدم على الخير في تركيبة النفس الإنسانية، حتى دفع قابيل لقتل أخيه هابيل في أول جريمة قتل بين إنسان وآخر في تاريخ البشرية. قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
«كم هي النداءات والرايات التي رفعت وترفع للمطالبة برحيل هذا الحاكم والزعيم والحزب والطائفة وخلافها، ولم ترفع راية واحدة للمطالبة برحيل الشر من دواخلنا، وتغليب وإحلال الخير محله..!
«الواقع أن الشر المسيطر على المتنازعين والمتحاربين؛ هو السبب الذي من أجله يجوعون ولا يشبعون، ويظلمون ولا يعدلون، ويعيشون ولا يعيشون. هو الذي يولد كره المسلم لغير المسلم، وكره غير المسلم للمسلم، ويكرس كره الشيعي للسني، وكره السني للشيعي، إلى آخر قائمة التصنيف التي برع فيها المتاجرون باسم الأديان السماوية، والمتكسبون باسم المذاهب والطوائف الإسلامية وغير الإسلامية، حتى ضللوا العباد في كل البلاد، وحتى أصبح لكل متاجر بدين، ومتكسب بمذهب؛ أتباع وعبيد وحشود، تسبح بحمده، وتأتمر بأمره، فتقتل وتحرق وتدمر؛ طلبًا لجنة موعودة منه، وبصك غفران في بعض الأحيان..!
«إنه الشر الذي يسكن النفوس؛ فيولد بينها الكره والعداوات، ويولد القطيعة والمقاطعة بين الإنسان وأخيه الإنسان، انطلاقًا من الانتماءات الدينية والمذهبية والقبلية والمناطقية.
«يقول البروفيسور فاروق الباز في واحدة من تجلياته الفكرية مخاطبًا العقول المتقوقعة والمسكونة بالشر: لو أننا لا نسمع فيروز لأنها أرثوذكسية، ولا نعترف بنزار قباني كشاعر لأنه مسلم سني، ونمحو السياب من الذاكرة لأنه شيعي، ولا نقرأ للماغوط لأنه إسماعيلي، ولأدونيس وبدوي الجبل لأنهما علويان، ولا ندرج فارس الخوري في كتب التاريخ لأنه مسيحي، أو سلطان باشا الأطرش لأنه درزي، ونتحفظ عن الضحك ونمتنع عن الفرح لأن دريد لحام شيعي..! إن غاندي يلهم الكثير من الأحرار وهو هندوسي..! وآينشتاين أعطى الكثير من العلم للبشرية وهو يهودي..! وستيف جوبز السوري ابن الجندلي اعتنق البوذية؛ فلماذا لا تقاطعون آبل، وماكنتوش، وحواسيب، وجوالات، واللابتوبات؛ لأنها من اختراع رجل لاينتمي لدينكم..؟! ثم يقول: كفوا عن مقاطعة الإنسان، وقاطعوا الشر داخلكم، الذي يحرمكم من هويتكم وتراثكم ومن علمكم. العلوم ترجمها العرب عن اليونان، ولم يقاطعوها لأنها وثنية..! الحكمة ضالة المؤمن، حيث وجدها اتبعها، والإنسان الذي يتقوقع ولا يتواصل مع الآخرين لمجرد تعصبه لفكر أو لديانة أو لمذهب أو لشخص؛ ينتهي علمه وأدبه، ويرجع إلى ما قبل كتب التاريخ .لا تغيروا أديانكم. لا تخونوا عقائدكم ..لكن؛ احترموا الآخر وحقه في الحياة. احترموا الانسان لتنعموا بالأمان.
«الأمان.. الأمان. أي أمان مع هذه المؤامرات التي تحاك؛ وهذه الهجمات التي تشن على العرب من غير العرب، ومن العرب على العرب..؟ دماء تسفك، ونفوس تذبح، وديار تدمر وتخرب، وما من عاقل يرفع بين الجموع الهائجة؛ راية العقل والتبصر ضد الجنون والهمجية، ويقول لهذا الشر المستطير: ارحل.. ارحل، ويقول للخير إن كان منه بقية: ارحب.. ارحب..؟
«الشر في نفوسنا على كافة المستويات الفردية والجمعية؛ مسؤول عن العداء والكراهية، وعن خياناتنا لبعضنا، وعن بيع الذمم لمن هم ضدنا، وعن رهن الأوطان لمن هم أعداء لهذه الأوطان منذ أزمان وأزمان. متى نلتفت إلى دواخلنا؛ لكي ننتزع هذا الشر المسيطر؛ ونقول له في كل شوارعنا ومياديننا ومدننا وقرانا في كافة أوطاننا: أيها الشر.. ارحل.. ارحل..؟!