د عبدالله بن أحمد الفيفي
-1-
وردَ في بعض كتب التراجم والآثار، ومنها كتاب (ابن عبد البر)، «الاستيعاب في معرفة الأصحاب»، وكذا «الإصابة»، (لابن حجر العسقلاني)، و»تهذيب الكمال»، و»طبقات ابن سعد»، و»المحلَّى»، (لابن حزم)، أن السيِّدة (الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشيَّة العدويَّة)، كانت من عواقل النساء وفُضْلَياتهن، وأن (عُمَرُ بن الخطَّاب) كان يقدِّمها في الرأي ويرضاها ويفضِّلها، وربما ولَّاها شيئًا من أمر السوق. وهو ما يُستنتَج منه أن الشفاء قد ولَّاها عُمَرُ على سوق (المدينة)، أي على الحسبة. وذكرَ (القرافي) كذلك، في «الذخيرة»، أن امرأة سمَّاها (أُمَّ سليمان) كانت تتولَّى إمارة السوق، في عهد الصحابة. وأُمُّ سليمان هي الشفاء نفسها.
كما جاء في بعض المصادر أن السيِّدة (سمراء بنت نهيك الأسديَّة) قد تولَّت هذا المنصبَ في (مكَّة). ومن الطريف أن هذه الأخيرة، وَفق بعض أخبارها، كانت تَمُرُّ في الأسواق، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وربما تَلْمَخ العاصي لَمْخًا، أو تضربه بسوطٍ معها. أورد (الطبراني، -360هـ)، في «المعجم الكبير»(1)، عن (يحيى بن أبي سليم)، قال: «رأيت سمراء بنت نهيك- وكانت قد أدركتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم- عليها دِرعٌ غليظٌ وخِمارٌ غليظ، بيدها سوطٌ تُؤَدِّب الناس، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر».
وهذا يعني أن المرأة لم تكن تأمر النساء وتنهاهنَّ فحسب، بل والرجال أيضًا. فهل نحن اليوم أكثر شِدَّةً في الدِّين وغيرةً من عُمَر؟! وما كانت «الحسبة» في ذلك الزمن محصورة في الأمر بالصلاة، ومطاردة الشباب والمراهقين، بل كانت تشمل مراقبة المكاييل والموازين، ومكافحة الغِشِّ التجاري.
ومن المدهش إنكار هذه الروايات عند بعض المنكرين لتاريخ الإسلام الحضاريِّ المشرق. يوَدُّ أحدهم لو اجتثَّها من كتب التراث اجتثاثًا؛ لأنه لا يُصدِّق أن الإسلام أرحب ممَّا في رأسه، ممَّا رُبِّي عليه، ولاسيما في شأن النساء! وتُقابل هذه الطائفةُ طائفةً أخرى- لا تقلُّ نُكْرًا- من المدافعين عن التراث، وعن أصنامه، باستماتة. ترى بطلها رافضًا نقد التراث، منافحًا عن صريح خطابٍ فيه غير سَوِي. والأغرب أن تكون هذه البطولة للمرأة نفسها، التي كثيرًا ما كان ذلك الخطاب لا يتوانى في قتلها، أو التشجيع على وأدها، وانتهاك إنسانيتها. ولا تفسير لهذه الحُمَّى الحضاريَّة إلَّا أحد أمورٍ ثلاثة: إمَّا أننا لا نقرأ تراثنا، وإمَّا أننا نقرؤه ولا نفهمه، وإمَّا أننا نقرؤه ونفهمه، لكننا لا نُقِرُّ منه إلًّا بما ننتقي ونهوَى، على منهاج «ويلٌ للمصلِّين...»، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى لا نُقِرُّ منه إلًّا بما لا يتصادم مع تقديسنا المطلَق للسَّلف، على منهاج «إنَّا وجدنا آباءنا...».
كيف، إذن، يتذرَّع اليومَ المتذرِّعون بالمَحرم لحِرمان المرأة من العمل، أو المشاركة في المجتمع؟!
لقد كانت المرأة تُشارِك في الحروب، وليس في العمل اليوميِّ فقط؟ والله تعالى يقول: «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا، ولِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ». فالاكتساب على الرجل والمرأة معًا. أم كيف يكون للمرأة نصيبٌ ممَّا اكتسبتْ وهي لا تعمل ولا تكتسب؟! وكيف يقول الخالق: «والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ»، (سورة التوبة، 71)، ثمَّ يقول مخلوقٌ: كلَّا، ليس للمرأة ولايةٌ على المؤمنين، ولا أمرٌ ولا نهي؟!
-2-
على أنه ينبغي أن لا يغيب عن الوعي الثقافي، في المعترك الاجتماعي، أن النِّسويَّة اليوم ليست بالحلِّ لقضايا المرأة، ولا للمناداة بنَيل حقوقها، التي لا خلاف فيها بين العقلاء المنصفين. من حيث إن النِّسويَّة، في جُلِّها، هي كالذكوريَّة تمامًا، تيارٌ إديولوجيٌّ، محتقنٌ. لا همَّ له سِوَى ترديد اسطوانات «الذُّكوريَّة»، و»الفُحوليَّة»، و»الأَبويَّة»، «والبطرياركيَّة»، و»المرأة المسحوقة» ... إلخ. وكوادر هذا التيَّار العربيَّة تمتاز، إلى ذلك، بغَلبة فريقَين بارزَين: متاجرِين بهذا الشِّعار- ولاسيما من الرجال، ولمآرب لا تخفَى تصبُّ في مصالح الذُّكورة- وذَوِي سذاجةٍ، بلا فِكْرٍ ولا نظر، حتى في قضايا المرأة واحتياجاتها ومصالحها. والمحصِّلة نِسويَّةٌ ضدّ النساء، في باطن الأمر. ويتَّصف المنتمون/ المنتميات إلى هذا التيَّار- بوعيٍ أو بدون وعي- بعقلٍ يُغفِي لديهم عادةً في خضمِّ الحماس وحُمُوِّ الوطيس؛ فتراهم قَسريًّا بالِغي التشنُّج، والتوجُّس، والاشتباه في أيِّ عبارةٍ أو لفتةٍ أو نقدةٍ للمرأة، ولو عِلْميًّا؛ وذلك ككلِّ تيَّارٍ ثوريٍّ متعصِّب، ينهض على الشحن العاطفي، والتوفُّز الذاتي، الذي لا يَدَع لحياديَّةٍ مجالًا، ولا لتجرُّدٍ عقليٍّ صوتًا.
من جانب ٍ آخر، هو في عالمنا العربي تيارٌ ما انفكَّ بعقليَّة (النظرة الحريميَّة) إلى المرأة، وإنْ أنكرها وادَّعَى الثورة عليها. هو منغمسٌ فيها، وإنَّما يمارسها من وجهةٍ تتظاهر بعكس حقيقته. يبدو لديه كلُّ حديثٍ غير مُؤيِّدٍ لبعض سلوك المرأة، وأيُّ نقدٍ لإنتاجها، لا ينبع إلَّا عن ذُكوريَّةٍ طالبانيَّةٍ مُغرضة، ومؤامرةٍ مُبيَّتة؛ إذ كلُّ ما يتعلَّق بالمرأة لدَى هذا التيَّار أصبح ذا قداسة، له حَرَمُه المحميُّ من اللمس أو الاقتراب، وحصانةٌ من النقد، وتسامٍ عن المراجعة. فإذا كان الناقد رجلًا، فهو ذُكوريٌّ ظالم، ولا ريب، وإنْ كان امرأة، فهي عميلةٌ متخلِّفة. وليت الشِّعرَ كلَّه، أيُّ مؤامرةٍ ذُكوريَّةٍ تاريخيَّةٍ على المرأة، والرجل إنَّما هو صنيعة المرأة، ونتاج تربيتها ومدرستها؟! على يدَيها يولَد، وفي كنفها يربو، ويتلقَّن ما يرسم ملامح شخصيَّته ونفسيَّته ورؤيته للحياة والأحياء، الذَّكَر منهم والأنثى. إنَّ ما يُسمَّى «الأفكار الذُّكوريَّة» هو من غرس المرأة، إذن، قبل الرجل. وإنْ كانت ثَمَّة ذُكوريَّةٌ تاريخيَّة، فهي من إبداع المرأة قبل الرجل!
إن الاستهانة بدَور المرأة في العمليَّة التربويَّة هو وليد احتقار المرأة، من جهة، ووليد المغالطة لتبرئتها، من جهةٍ أخرى. ذلك أن الدَّور الاجتماعيَّ الفِعليَّ- لدَى أصحاب هذا الرأي المتكئِ على تأثير الذُّكوريَّة المطلَق في المجتمع- إنَّما هو نتاج القُوَّة العَضَليَّة في الحَراك الاجتماعي. في غفلةٍ عن أن المرأة، في تربيتها الأطفال وتنشئتها إيَّاهم، كانت قادرةً- لو شاءت- على قلب موازين القِيَم الاجتماعيَّة. فلِمَ لَم تفعل؟ إمَّا لأنها خائنةٌ للفكر النِّسويِّ، بالفطرة أو الاكتساب، وإمَّا لأن ذلك الفكر محضُ نَزَق، منافق، خارج على طبائع الأشياء، وسُنن الطبائع.
مهما يكن من أمر، فإن الكُلَّ- في هذا الشأن كما في غيره- يعرف الحل، لكنَّ الحلَّ، غالبًا، لا يريده الكُل!
** **
(1) تحقيق: حمدي عبدالمجيد السلفي (القاهرة: مكتبة ابن تيميَّة، د.ت)، 24: 311.