د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وحين تخرج عملية التزيين من محاكاة نموذج تقليدي إلى نماذج أخرى أكثر تعقيداً وعمقاً، وإن كان مسألة التجميل لا يمكن الجدال فيها، فهي وظيفة مركزية في التزيين في الأصباغ، فإن السؤال هنا عن النموذج غير التقليدي الذي تسعى إلى تحقيقه هذه العملية، وما المعنى الذي يمكن قراءته؟
من خلال الحديث السابق بدا أن محاكاة النموذج تقوم على النظر إلى كل جزء من أجزاء الوجه نظرة مستقلة بعيدة عن علاقته بالأجزاء الأخرى، وموقعه من الصورة الكلية، وهذا يبدو من خلال حديثه عن تزيين الفم إذ يقول: «لقد اخترت تزيين الفم بأحمر الشفاه الأحمر الساحر»فهو يذكره مستقلاً عن ذكر المواقع الأخرى، وهذا ما نجده في النموذج التقليدي.
في حين أنه يتحدث عنه (الفم) في المقطع نفسه في حالة كونه مع العينين، فيأتي لون أحمر الشفاه مختلفاً عما كان عليه، إذ لا بد أن يكون متناسقاً معها (العينين): (مكياج عيون مع لمسات من الأزرق الداكن والأسود بينما يغمر الشفاه لون نيود)، ولون نيود هو اللون القريب من لون البشرة بدرجاتها المختلفة ، وهذا يعني محاولة إخفاء الشفاه وأثرها في الناظر من المشهد الجمالي، والاكتفاء بالعينين.
ومراعاة العلاقة بين العينين والفم في التزيين في النموذج الحديث أمر ظاهر في مقول التزيين، حيث تقوم بينهما علاقة تبادلية، يقوم فيها الفم مقام مركز جذب الانتباه في الوقت الذي تضعف فيها قوة مركز العينين، أو تقوم العينان بفعل الجذب في حين تخفف مركزية الفم لدرجة التماهي مع سائر الوجه حتى يأخذ لونه ويزول منه حتى لونه الطبيعي، ولا يعود له حضور خاص كما هو في لون «نيود» السالف الذكر.
يقول الكاتب: «في حال اعتمدت ظلال عيون براقة، ننصحك بعدم تطبيق أحمر شفاه متلألئ، بل اتجهي نحو التدرجات الحيادية»، ويقول في موضع آخر: «اعتمدي مع أحمر الشفاه الأحمر ظلال هادئة وغير قوية». فالفكرة هي أن يكون مركز الجذب ولفت الانتباه في موضع واحد عوضاً عن كما يقول- أن يتشتت الانتباه عن عينيها.
فمراكز جذب الانتباه كما يرى الكاتب، تكمن في العينين والشفتين، فإذا قام المزين باستخدام أدوات صارخة تلفت الانتباه في تزيين العينين ينبغي أن يخفت المركز الآخر وهو الفم بصبغه بلون يقارب لون الجسم، وكذلك العكس، ولا أدري لم لا يشحذ المزين المركزين بالزينة، ويجعلهما متكاملين عوضاً عن أن يكونا متناقضين، كما لم يذكر متى يحسن أن يكون مركز الجذب العينين ومتى ينبغي أن يكون الشفتين، وإذا كان يذكر أن ظلال العيون السوداء القوي يعكس جرأة تناسب الأوقات المسائية، فأظن أن اللون الأحمر الذي يعكس الشفاه الملتهبة لا يقل مناسبة لأوقات المساء.
والأمر الأشد عجباً من وجهة نظري، أن «الأنف» ليس من مراكز الجذب في الوجه في أحاديث المزينين، وليس له أدنى حضور في كلامهم، مع أنه بالغ الحضور في الوجه، فهو الجزء البارز فيه، ويقع في المنطقة الوسطى بين الفم والعينين، لا تخطئه عين الناظر في التنقل بينهما، خاصة مع هذه الصلة التنافسية في قيمة الجذب ولفت الانتباه لهما.
وقد أخذ معنى رمزياً في الثقافة العربية القديمة للدلالة على الأنفة والعزة، فارتفاعه يدل على الأنفة (شم العرانين) وورمه دليل على الغضب، ففي المثل «ورم أنفه» إذا غضب، وجدعه يدل على الذل والاستكانة ومن ذلك قولهم: «لأمر ما جدع قصير أنفه».
كما أن له حضوراً في الرؤية العربية التقليدية للجمال، فقد غلبت صفته على اسم بعض النساء كالخنساء والخناس، والذلفاء، وقالوا: إن الجمال في الأنف، وكثير ما كان موضع غزل وحديث من الشعراء بوصفه أحد مراكز الجمال في الوجه.
وهذا الغياب للأنف يعكس البعد الثقافي في التزيين في النموذج الجديد، ويبين الفرق بينه وبين النموذج التقليدي، وهو ما يشرح سبب العناية في منطقة الجفون (غطاء العين) بوصفه أحد المناطق التي تستهدفها عملية التزيين بالرغم أنه يبدو-لي على أقل تقدير- منطقة بعيدة عن لفت الانتباه، إلا أن فكرة توسيع مركز العين، وتقوية جاذبيته وتأثيره على الناظر، خاصة مع صغر حجم العين لدى كثير من الأجناس أغرى المزينين في إدخال هذه المنطقة في دائرة العين لا سيما أنها تقع بين سوادين: سواد الكحل وسواد الجفن، ويمكن الاستعانة بها عند الحاجة إلى توسيع مساحة العين، وزيادة مركزية حضورها في الإثارة ولفت الانتباه بالإضافة إلى بعض الحيل الأخرى المعروفة في هذا السياق.
وهذا ما حدث بالفعل، وجعلها تصبح منطقة مساندة - إن صح التعبير- للعين، ومستقلة عنها، تأخذ ألواناً ليست بالضرورة ملتزمة بلون العين، بقدر ما يكون مستجيباً للحالة لتي تبدو عليها الشفاه، ووظيفتها في عملية التزيين وتحديد المناطق الفاعلة فيها.