يبقى الزمن من أكثر المعضلات، وأشدها تعقيداً، حاول الإنسان فهمه وتفكيكه وجعله أكثر قابلية للترويض، لكن الأمر - حتى الآن - محال محض؛ فلم يستطع الإنسان - رغم كل تقدمه التقني والمعرفي - العودة دقيقة واحدة للوراء، ولا أن يتقدم أخرى للأمام.
إن كل ما في الأمر هي آمال تأملها البشرية في القدرة على استرجاع الماضي وإصلاحه، والقفز للمستقبل لإشباع فضول المعرفة البشري؛ لتظهر لنا محاولات فنية بأفلام وقصص ترضي هذا الشغف.
يأتي الفيلم السعودي القصير «حرق» في ظل هذا الوهم المتناغم؛ ليكون عينين في رأس اللحظة مفتوحتين إلى أقصاهما، كل واحدة منهما تطالع في مسار مختلف؛ فالأولى عين يحرضها الأمل، الوهم، التلصص على بهجة متخيلة قريبة؛ لتحدق باتساع يكاد يكون ساخراً. أما الأخرى فعين خائفة، متوجسة، بطيئة، تراقب ذاتها أمامها، بياضها تملؤه تجاعيد القلق الحمراء، تتسع بصمت متوحش لا يؤذي سوى نفسه.
هكذا هما «صالح وصالح»، شخصيتا الفيلم اللتان يتقاطع مسارهما الزمني في لحظة ما في مكان هو المستشفى حيث ينتظر كلاهما مولوده. يتركنا المخرج نتساءل: هل هما شخص واحد بأزمنة مختلفة؟ أم هما شخصيتان مختلفتان تتشابهان في المصير؟ لا شيء أكيد سوى أنهما صالح الماضي (عين الأمل) وصالح المستقبل (عين الترقب)؛ إذ يبدأ صالح المستقبل بملاحظة صالح الأمل الذي يذكِّره بنفسه عندما كان شاباً بذات السحنة السمراء القروية، وذات الحلم الأبله حول المستقبل، بينما صالح الماضي يحاول تجاهل كل المقاربات التي تبدو جلية وواضحة، أشبه ما يكون بمن يصطنع الهرب؛ لذلك تراه يبتعد عن الحقيقة، يقارب الإغفاء؛ ليواري خوفه الذي تحمله أي نفس بشرية حول مستقبلها.
يبدو المستشفى خاليًا تقريبًا من سواهما، وكأنه مسبح الرحم الذي يظل فيه الطفل يتخبط في ظلمته بأحاسيس غامرة، لا يمكن فهمها على وجه الدقة. يبدو الفراغ لصيقاً بالوقت ما لم يملؤه الناس بقصصهم وتجاربهم، ذلك الوقت الذي حاول صالح الماضي أن يعاود مكاشفته من صالح المستقبل.
- هل هذا ما كان يدعو إليه كريس سكرتشفيلد عندما قال «كن فضولياً مع نفسك»؟ بالطبع لم يكن يقصد ذلك، بقدر ما كان يدعو إلى خوض التجارب ومحاولة إنجاز أمور غير اعتيادية؛ إذ من شأن كل هذه الأشياء أن تسهم في اكتشافنا لأنفسنا ومعرفة قدراتنا، ولكن ليس بالضرورة مصيرنا!
يستأنف صالح الماضي إلحاحه لمعرفة مصير أحلامه؛ ليفَاجَأ بتخمينات مؤلمة، جعلت من عينه تتسع لتبتلع كل خيبات الكون، وترميها في روح سحيقة، تناضل لرفض تصديق ما يدور حولها.
انتظارهما للمولود هي حيلة لفرض مساحة من الخيال الحر الذي لم يعرف الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، مساحة اللازمان واللامكان، مسار جديد قابل لكل الاحتمالات، يضيف معنى رابعاً لمفهوم الزمن، لم تدركه البشرية بعد.
** **
- حسن الحجيلي