«الجزيرة الثقافية» - محمد هليل الرويلي:
إن التحقيب في تاريخنا الموريتاني، يصعب بمكان يا أعرابي على ذكر كل تلك التوازنات الكونية. إلا أننا نُشير إلى أن ما عمّقهُ أنجاد أسلافنا العرب أزمنة مديدة أعْنَت اليوم أرضنا كرومه أصالة، فلم يكن بوسع أي عجاجة قحفاء أن تذهب منها بشيء، ولو تنابث قوم، أو قام يزبد يومًا كتيع. وإليك جانبًا مما ارتمس بعبق من أريج ذاكرة تاريخنا القديم، ليرعى جيدًا من كان أعمش يعاني كلالة البصر: هناك التاريخ خشع لنا، من الألفية الثانية للميلاد حتى القرن السابع، بداية ظهور العربات التي جاء بها شعب «الجرمنت» وما شكلته من فتح في تاريخ صحرائنا، تواصلاً مع عالم الشمال الروماني. لليوم يا أعرابي، يُطلق عليهم السُّكان المحليون «أغْرمان» أي الرومان الصغار.
تلاه تاريخ بدأ من الفتح الإسلامي في القرن الأول الهجري، وانتهى بسقوط «تنبكتو» نُطلق عليه العصر «الصنُهاجي» شهد قيام دولة المرابطين، و»الملثمين» وعاصمتهم «أوْدَاغُسْت»، وإضافة لقيام «الدولة المرابطية» التي تأثرت الصحراء بسقوطها سنة 1591 م، انهارت المؤسسات الدينية والثقافية والاقتصادية شمال نهر النيجر، وهاجر العلماء غربًا، وصعدت إمارات وثنية في الجنوب، كما وصل للأوروبيين إلى الساحل.
ثم عقبه تاريخ حديث نسميه «العصر الحسًاني» سيطر فيه بني حسان العرب، على أجزاء واسعة من البلاد، إلى أن وقع «حصار الحنيْكات» سنة 1778م، كانت فيها الدائرة بين عشائر «إدوعيش» الصنهاجية وقبائل بني حسان العربية، أدت نتائجها لقيام إمارة «تكانت» ونهاية للصراع الطويل بين (الإمارة اللمتونية والقبائل العربية). ومؤخرًا يتجلى تاريخنا الراهن، وبدايته الفعلية منذ نشوء الدولة الوطنية سنة 1960م. ودوّن يا أعرابي: إن التحولات التي دعتها نخلة العيش وكفلتها سيرورة الانتجاع ودوراته المتواصلة على هذه الأرض، في نطاق المحيط المُتشكل، أدت أن يكون مجتمعنا مقسمًا لفئات اجتماعية لكل منها طابعها وخصوصيتها وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية والثقافية، يعرف كل منها وظيفته. بدءًا من الطبقة العليا أول السلم ونسميها (حسّان - العرب)، أعضاؤها هم أهل الشوكة. وتقوم حياتهم على الحروب، يفرضُون مغارم على الاتباع، ويأخذون أغافر من «قبائل الزوايا»، وهؤلاء يحلون ثاني السُّلم (الزوايا - الطلبة) وهم قبائل المرابطين وعرب الأمصار. أغلبية أفراد الطبقة طلبة علم، وممن يشغلون المناصب الدينية في الفُتْيا والإمامة. إضافة إلى طبقة تُسمى (اللحْمَةُ - الحلفاء)، شرقي البلاد، وفئة (الصُّناع أو المعلمون، والزّفّانُون أو المغنون الشعراء، والحراطين، والأرقاء).
هذه بلادنا موريتانيا أو بلاد شنقيط كما كانت تسمى قديمًا، بوابة الوطن العربي على إفريقيا السمراء، وحلقة الوصل بين العالمين العربي والإفريقي، من خلالها انتشر الإسلام واللغة العربية في مختلف أرجاء إفريقيا الزنجية. وفي هذا الرقيم سنقدم لكم صورة موجزة حول جوانب من مسارات الثقافة والأدب.
بلد المليون شاعر
أوضح الناقد الدكتور ولد متالي لمرابط: إن اللقب التي تشتهر فيه موريتانيا اليوم «بلد المليون شاعر»، شعار إعلامي انطلق في ستينيات القرن المنصرم مع مجلة «العربي» الكويتية، في تحقيق أجرته حينها عن موريتانيا، تحت عنوان: «نواكشوط.. أحدث عاصمة في أقصى منطقة من وطننا العربي وقد تضمن التحقيق هذه المقولة، ومن هنا كانت شهرتها. وأضاف: إن المجتمع الموريتاني تمسك بشاعريته واعتبرها رمزًا لوجوده الثقافي، وعندما يسأل عن هويته الثقافية يضع الشعر ومتعلقاته على رأس القائمة، إِذ قد عانى الموريتاني في وقت ما من جهل دول الوطن العربي - وخصوصًا في المشرق - بهويته وثقافته، هذا الأمر هو ما حدا بابن الأمين الشنقيطي في مطلع القرن العشرين إلى تأليف كتابه النادر «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط» الذي أحدث صدى واسعًا لدى المثقف العربي، يقول عن دواعي تأليفه لهذا الكتاب: «وقد أخبرت بذلك بعض نبهاء المصريين، فاستغرب ذلك، ظنًا منه أن الآداب العربية لا يتصف بها غير الأقطار المشرقية، ولم يقل ذلك عن سوء نية، ولا خبث في الطوية، فحدتني الحمية العصبية إلى نشر ذلك البز الدفين لينتشر في المغربين والمشرقين. وقد ظل هذا الجهل - الذي أسهمت فيه عوامل متعددة داخلية وخارجية - مستمرًا إلى عهد قريب، وهو ما وصفه بعض المفكرين الموريتانيين بالقول: «وكم يجرح كبرياء الموريتاني، ويستثار حياء البدوي عندما يتجول في العواصم العربية، فيتفاجأ بالسؤال عن لغته وهويته، ويطعن ضمنًا في أصالته ودوره الحضاري، فلا يجد ردًا سوى سرد أمجاده التاريخية، ويفتخر بأنه سليل المرابطين دعاة العقيدة والدين في جنوب الصحراء، وأن بلاده بلاد العلم، أرض «المليون شاعر».
قصر وخيمة وناقة وسيارة فارهة!
وتابع: وبذا يغدو الشعر في مقدمة الأوراق الثبوتيّة للموريتاني، إِذ يشكل في وعي المجتمع أهم مرتكزات الهوية والثقافة والوجود. كما ظل التمسك به شاهدًا حيًا على عروبة الموريتاني وأصالته التي غذتها قيمُ الصحراء والروحُ البدوية التلقائية، يقول الشاعر محمد ولد إشدو في إقرار واضح بهذه المقولة، عبر شهادة بالغة الأهمية: «نعم.. نحن بلاد المليون شاعر؛ لأننا ما زلنا على الفطرة العربية. وقد حافظت لنا بيئتُنا الصحراوية وطبيعتُنا البدوية على الروح العربية المسكونة بالشعر! تلك الروح التي يحنّ إليها في حضرهم قريشُ الفسطاط وغساسنةُ الشام ومناذرةُ العراق وتبابعةُ اليمن وغيرُهم من العدنانية والقحطانية في الحجاز ونجد والأندلس والمغرب؛ التي يتغنى بها الشعراء والأمراء عبر عصور هذه الأمة الشاعرة من ميسون بنت بحدل إلى الأمير عبدالقادر الجزائري! ودلالة على ذلك، فإن الذين أرغمتهم ظروف العصر منا على التمدن لا يزالون يصرون - في حضرهم العارض - على الجمع بين القصر والخيمة والناقة والعنز والسيارة الفارهة رباعية الدفع! بداوة وتخلف؟ سموها ما شئتم! نحن سعداء بها، وقد ارتضيناها لأنفسنا هوية ولذا فإن الشعر كان «وراء كل الأحداث العظيمة في تاريخنا».
ما يؤكد غرام المجتمع الموريتاني بالشعر في تركيزه المفرط حتى الآن على الإنتاج الشعري للمبدعين وإهماله لكتاباتهم في الفنون الأدبية الأخرى، ويمكن أن نستحضر للتدليل على هذا الرأي نموذج الشاعر الروائي أحمد ولد عبدالقادر، فعلى الرغم من أنه أصدر ثلاث روايات وديوانيْ شعر، وقد ظهرت رواياته في وقت متقارب نسبيًا، وهي تمس صلب قضايا المجتمع وتحولاته التاريخية والاجتماعية والثقافية الكبرى، إلا أن جانبه الروائي ظل خافتًا لدى النقاد والجمهور المتلقي، فيما ظل إنتاجه الشعري في دائرة الضوء. ويتأكَّد هذا الأمر أكثر حين نتجه إلى حقل الدراسة النقدية، حيث تتضاءل نسبة الدراسات التي تتناول السرد الموريتاني، فيما تنصب أغلب البحوث والأطاريح الجامعية على دراسة الشعر الموريتاني قديمًا وحديثًا، وهي مسألة لا يمكن إلا أن تستوقف الباحث، وهي بكل تأكيد وليدة سياقات تاريخية وثقافية لا تزال مهيمنة على العقل الجمعي الموريتاني. في ضوء هذا الطرح تمكن مساءلة ما افترضه بعض الباحثين من تحول الكتابة الأدبية الموريتانية منذ الثمانينيات «من أدبية الشعر إلى أدبية القص». (وهو توجه أفصح عنه الناقد محمد الأمين بن مولاي إبراهيم في مقاله: ظهور الرواية الموريتانية: تحول من أدبية الشعر إلى أدبية القص.
المحضرة «الجامعات البدوية المتنقلة»
وحول ما يعرف محليًا بالمحاظر (أو المحاضر) ودورها في نشر العلم في ربوع الصحراء، أوضح «لمرابط» أن المحضرة تطلق على مدارس التعليم التقليدية في موريتانيا، وقد أخذت على عاتقها مهمة نشر العلم في ربوع الصحراء المترامية الأطراف، كما كانت بوابة لنشره عبر أرجاء القارة السمراء في دولها الزنجية الغربية: السنغال، ومالي، والنيجر... وغيرها، ولا تزال هذه المؤسسات تؤدي دورها حتى اليوم، بالرغم من هيمنة التعليم العصري، وقد أطلق عليها الباحث الخليل النّحوي لقب (الجامعات البدوية المتنقلة).
يقول الدكتور محمد المختار بن أباه في وصف المحاضر الموريتانية والظروف الصعبة التي كانت تصاحبها: «من الصعب على من لم ير المحاضر أن يتصورها. ذلك أن البداوة تقترن في الذهن بالغباوة والجهل، فالثقافة جزء من الحضارة. ومراكز العلم والتدريس تقترن غالبًا بالمعاهد والجامعات المشيدة التي اتصلت شهرتها بشهرة المدن التي تحتضنها، غير أن المحاظر فريدة في نوعها، إِذ هي بعض أحياء البدو الذين يتبعون المرعى متنقلين من ضفاف نهر السنغال إلى وادي الساقية الحمراء، تصادف شيخًا كسائر البداة متقشفًا في ملبسه ومظهره، ولا يمتاز بشيء عن سكان الحي سوى أن ترى أمام بيته مجموعة من الشبان يقل عدده ويكثر حسب الأزمنة، تسكن تحت الشجر وفي عريش من خشب وثمام، وتعيد بناءه كلما ارتحل آل الشيخ، هؤلاء هم تلاميذ المحظرة، يلتفون حول الشيخ ضحوة كل يوم، ثم يسابقون إلى الدراسة وقد يجتمعون شعبًا لقراءة نص واحد، والأغلب قراءتهم أشتاتًا. ونظام الدراسة يمتاز بكثير من الحرية، فالطالب يختار بنفسه مادة قراءته من نحو أو فقه أو صرف... ثم يختار المقرر الذي يناسب مستواه، ثم يحدد حجم الدرس الذي بوسعه أن يستوعبه، هذا بالنسبة للطلاب، أما الشيخ فإنك تستمع إليه وهو يفسر نصًا من مختصر خليل، ثم ينتقل مباشرة إلى باب من ألفية ابن مالك في النحو، وبعده إلى درس في التوحيد من نظم إضاءة الدجنة للمقري ثم إلى أبيات من معلقة امرئ القيس... وهكذا دواليك، وحينما يجن الليل ترتفع أصوات الطلبة بـ(التكرار) والمناظرة وا لاستذكار».
وقد حرص شيوخ المحاضر على استغلال أوقاتهم في التدريس والتعليم، كما شجعوا طلابهم على التفرغ للعلم والابتعاد عن مغريات الحياة التي تستهلك على الطالب وقته، وربما تصرفه عن هدفه في طلب العلم، ويحفل تاريخ المحضرة بالكثير من الأدبيات التي تؤشر على هذا المنحى.
مسارات الشعر الموريتاني الحديث
وأكَّد «لمرابط» أن الحركة الشعرية الموريتانية الحديثة جاءت استمرارًا للعطاء الشعري الموريتاني القديم وهو عطاء باذخ شهد أوج ازدهاره في القرن الثالث عشر الهجري، إِذ خلّف الشعراء الموريتانيون القدماء تراثًا ضخمًا من النصوص، نالت عوادي الزمن منها، وإن احتفظ الرواة الموريتانيون بجزء كبير منها، وقد صدر في شكل مدونات ومجاميع شعرية من أبرزها تلك التي ألفها ابن الأمين الشنقيطي، وأصدر الباحث محمد المختار بن أباه تكملة لهذا الكتاب تحت عنوان (الشعر والشعراء في موريتانيا)، ضمّنها إنتاج كثير من الشعراء الذين لم يُترجم لهم ابن الأمين في المدونة السابقة، كما بدأ هذا الإنتاج يظهر على شكل دواوين تجمع إنتاج كل شاعر على حدة.
بذا يقف الشعر الموريتاني الحديث على جذور تراثية صلبة ما زالت تفعل فعلها فيه، وتوجه مساراته وخياراته الفنية، ولا يزال كثير من الشعراء المعاصرين مشدودًا بين الحنين إلى الماضي الشعري الباذخ الذي تستحضره الذاكرة الثقافية الوطنية بكل زهو، وبين التطلع إلى مسايرة واقع شعري عربي وعالمي له خياراته الفنية ومعطياته الجمالية المغايرة. ولقد تأسست الحركة الشعرية الموريتانية الحديثة في فضاء متنوع، أسهمت عوامل متعددة في صياغة صورته العامة.
وكان من أبرز الفضاءات التي احتضنت الشعر الموريتاني الحديث «المنابر الأدبية والثقافية» التي بدأت تظهر، بشكل لافت، منذ بداية الثمانينيات، وإن كانت وجدت بذورها في عقد السبعينيات، فغذّت الحركة الثقافية، وأسهمت في تغيير الوعي الرؤيوي للشعراء. وشهدت الثمانينيات فترة ازدهار وحيويتها، رغم حديث البعض عن بدء انحسار «اليقظة الثقافية التي بدأت بشائرها في السبعينات»، بفعل تأثير عوامل متعددة عاشتها الدولة، وأربكت كثيرًا من مشروعاتها الثقافية والسياسية والاجتماعية. وكان من أبرز النوادي (الجمعية الثقافية الإسلامية، رابطة الأدباء والكتاب، جمعية غرناطة، نادي شنقيط، نادي المرابطين، نادي مسرح الهواة، منتدى الفكر والحوار، النادي الأدبي، ونادي القصة...). وأصدرت بعض هذه الأندية مجلات ثقافية أبرزها مجلة «الزمن» كما ضمت هيأتها الثقافية كثيرًا من الأدباء مثل محمد الأمين ولد الناتي ويحيى بن محمدن الهاشمي وغيرهما، ونُشر فيها القصائد، وبعض المقالات النقدية من قبل باحثين عرب أو موريتانيين. إضافة لما نظمته تلك الأندية من الندوات والأماسي الثقافية حضرها بعض كبار المثقفين العرب مثل محمد عابد الجابري، ومحمد مفتاح، وغيرهما. إلا أن هذه الأندية سرعان ما بدأت تتهاوى، وخَفَتَ نشاطُها، خاصة مع بدايات عقد التسعينيات لتبقى مؤسسات الدولة هي المسؤولة وحدها عن رعاية الثقافة والأدب. ويبقى أهم هذه المنابر «اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين» لارتباطه بمؤسسات الدولة، وقد بدأ، أخيرًا، يصدر بعض المجموعات الشعرية بشكل منتظم سنويًا، وهو أمر له أهميته البالغة، نظرًا لصعوبات النشر التي يعاني منها الشعراء الموريتانيون. ومن المهم أن نشير إلى أن هذه المنابر الثقافية شاركت في كثير من الفعاليات الثقافية والمهرجانات الشعرية العربية بالمربد، والقاهرة، وجرش، وقرطاج، والجنادريّة، وأصيلة..، وتفاعلت مع الزيارات التي قام بها بعض كبار الشعراء العرب إلى موريتانيا ومن أبرزهم: أدونيس، ومحمود درويش.
لقد كان للعوامل السابقة التي تحدثنا عنها دور مهم في تغذية الحركة الشعرية الموريتانية الحديثة ورَفْدِها بعناصر التّحول والتّطور، مما خلق وعيًا حادًا لدى الشاعر الموريتاني الحديث بأهمية اللحظة الفنية، وجعله يفتح نوافذ جديدة على الإبداع العربي المعاصر؛ تأثرًا ومثاقفة، وهو ما كان له عميق الأثر في صناعة توجهات المشهد الشعري الموريتاني الحديث.
ومن أبرز الشعراء الموريتانيين المعاصرين: أحمد ولد عبد القادر، الخليل النحوي، فاضل أمين، محمد كابر هاشم، إبراهيم ولد عبدالله، محمد الحافظ بن أحمدو، ناجي محمد الإمام، أبو شجه، محمد ولد الطالب، سيدي ولد الأمجاد..
محمد ولد عبدي: رائد الثقافة
وتحدَّثت الباحثة والكاتبة «عائشة محمد عبدي» عن تجربة أحد أبرز أعمدة الثقافة الموريتانية والشعراء المعاصرين فقالت: يعد المرحوم الدكتور محمد ولد عبدي أحد أبرز أعمدة الثقافة الموريتانية، وأحد أبرز الشعراء والنقاد الموريتانيين المعاصرين؛ إِذ رسم بعمق صورة ناصعة للثقافة الموريتانية عبر مجموعة من الأعمال الأدبية والنقدية والثقافية عالية القيمة.
فعلى المستوى الشعري: تنوعت المساراتُ الشعرية لدى الشاعر محمد ولد عبدي، وهو ما كان له عميق الأثر في تنوع توجهاته الفنيّة والرؤيويّة. كتب القصيدة العمودية عن وعي بتقنياتها الشعريّة، وواكبَ بسرعة مَسَاراتِ القصيدة الحداثيّة؛ عبر بوابة الشّعر الحر التي استهوت شعراء جيله في بداية ثمانينيّات القرن المنصرم، ويُتَرجِمُ هذه الحقبة، بجلاء، ديوانُه الأصيل (الأرض السائبة)، كما تجلت مسارات الحداثة الشعرية في إنتاجه من خلال ديوانيْه (كتاب الرّحيل وتليه الفصوص)؛ قدّم فيهما نصوصًا مُغايرة للمألوف في الشّعريّة الموريتانيّة الحديثَة، وهي نصوص تَرُجّ بقوةٍ المسلماتِ الشّعرية التّقليديّة، وتكسرُ طَمَأنينَةَ المتَداول الفني الذي يركن إليه كثيرٌ من الشعراء؛ إيثارًا للسّلامة، ومُهادنة لطقوس القرّاء. كما اهتم ولد عبدي بأدب الرحلة، وأصدر فيه كتابه القيم: (فتنة الأثر: على خطى بن بطوطة في الأناضول)،
وفي مجال الدراسات النقدية؛ فقد كانت دراسات ولد عبدي أطروحات أصيلة ومعمقة، بدءًا من دراسته (ما بعد المليون شاعر: مدخل لقراءة الشعر الموريتاني المعاصر)، التي تعد من أوائل الدراسات التي أنجزت حول الشعر الموريتاني الحديث، قدم فيها قراءة علمية وتحليليّة معمقة، وكانت الدراسة من أوائل الكتابات المعاصرة التي تابع من خلالها بعض النقاد العرب فضاء الشعر الموريتاني الحديث.
وأضافت الكاتبة «عائشة عبدي» أما الدراسة النقدية الأبرز التي أنجرها المرحوم فهي: (السيّاق والأنساق في الثّقافة الموريتانيّة: وهو كتابٌ نقدي رائدٌ حلّل فيه الباحثُ بعمق مساراتِ الثقافة الموريتانية وأنساقها المهيمنة، لينفذ إلى تخوم النصوص الشعرية، راصدًا خلفياتها الثقافية وتمثّلاتها الجمالية والفنية، وهي مباحث طريفة تجد حيويّتها في تنوع الثقافة الموريتانية وخلفياتها التاريخيّة والفكريّة الثّرة. وقد استفاد الباحث في دراسته من تطبيقات النقد الثقافي في نسخته العربيّة التي وقّعَها الناقد السعودي عبدالله الغذّامي، محاولاً تفادي بعض الملاحظات التي وجهت لقراءات الغذّامي بهذا الخصوص.
وقد ترك المرحوم مجموعة نصوص نادرة قمت بتحقيقها تحت عنوان (محمد ولد عبدي: مقاربات ونصوص جديدة)؛ صدرت مؤخرًا عن أكاديمية الشعر في أبوظبي؛ وتضمن نصوصًا شعرية وعلمية وثقافية؛ إضافة إلى مجموعة خواطر وتأملات عميقة في الحياة والكون والوجود كتبها المرحوم في أواخر أيامه وأسماها (اللطائف).
الحركة النقدية في موريتانيا
وتناول الدكتور «متالي لمرابط» تحت عنوان «الحركة النقدية في موريتانيا: محمد ولد بوعليبه أنموذجا». وقال: بدت سمات التميز واضحة على دراسة (النقد الغربي والنقد العربي: نصوص متقاطعة) للدكتور ولد بوعليبه، بدءًا من اختيار حقل الاشتغال (النقد المقارن)، وموضوع الدراسة (أطروحات الناقدتين اللبنانيتين خالدة سعيد ويمنى العيد).
فقد تسلح «ولد بوعليبه» بمعرفته الدقيقة للنقد الفرنسي عبر دراسته الطويلة في فرنسا، وعمد إلى استقصاء أطروحات الناقدتين العربيتين (خالدة سعيد ويمنى العيد) من منابعها الفرنسية، فخرج علينا من ذلك بفتح مهم، ومجموعة من نقاط الاستفهام النقدي التي تتراقص في ثنايا الدراسة باحثة عن جواب، ليطرح إشكالية التحديث في الأدب العربي عبر تلاقحه وتفاعله مع الآداب الغربية، وهنا بالذات يضع «ولد بوعليبه» لبنة مهمة في النقد العربي، وأساسًا متينًا لقيام دراسات جادة في هذا المجال، وقد أسهم بهذا المجهود في ضخ دماء جديدة في ساحة النقد الموريتاني؛ وذلك عبر القراءات التي نشرت عن دراسته في المجلات والصحف الوطنية والعربية، والنقاش الذي أثارته في الندوات وقاعات المحاضرات بالجامعة الموريتانية وغيرها من منابر التعليم، لتجمع تلك النقاشات على أنها إضافة نوعية في مسيرة النقد الأدبي العربي الحديث، وإسهام جذري في حقل الدراسات النقدية المقارنة وحركة نقد النقد العربية.
كما تمثل هذه الدراسة نموذجًا فعليًا لقراءة النقاد الموريتانيين للمنجز النقدي العربي المعاصر، تلك القراءات التي ظلت غائبة بشكل كبير بفعل اهتمام أغلب الباحثين الموريتانيين بالمنجز الثقافي الوطني، مما أسهم بشكل كبير في خفوت التواصل مع المنجز النقدي العربي، وجعل الصوت النقدي الموريتاني شبه غائب عربيًا، حيث اقتصر في الأغلب على تطبيق النظريات العربية على المنجز الأدبي المحلي، وإن كانت دراسة ولد بوعليبه أسهمت بشكل كبير في الحد من هذا التقوقع، حيث حضرت هذه الدراسة بقوة في الحركة النقدية العربية المعاصرة، وهو ما يبدو جليًا من خلال تقديم أحد أبرز أساطين الأدب والثقافة العربية المعاصرة لها (الدكتور صبري حافظ)، فضلاً عن صدورها عن إحدى أبرز الهيئات الثقافية العربية المنتجة للوعي النقدي العربي المعاصر (المجلس الأعلى للثقافة بمصر).
الرواية الموريتانية وأسئلة الكتابة
وقال متناولاً الحركة الرواية: أما في مجال الرواية أن من أبرز الروايات الموريتانية «الأسماء المتغيرة» لأحمد بن عبد القادر، و»مدينة الرياح، وحج الفجار» لموسى بن أبنو، و»منينة بلانشيه» لمحمد ولد أمين، وسنركز هنا على تقديم فكرة موجزة حول رواية موريتانية حديثة الصدور؛ وهي «تيرانجا» لمحمد فاضل عبداللطيف؛ وهي رواية تضيف إلى الخطاب الروائي الموريتاني نكهة جديدة، وتسهم بالدفع به إلى مسارات أكثر ثراء على مستوى الرؤية والتجريب، هذا الخطاب الذي ظلت تهيمن عليه الرواية الكلاسيكية ذات البعد الاجتماعي والتاريخي، مع هيمنة الاتكاء على العنصر التراثي، فيما غابت الرواية التجريبية ذات النمط الحداثي الانزياحي.
تأثير الثقافة الموريتانية في إفريقيا: السنغال أنموذجًا
وعن الدور الثقافي الذي لعبته موريتانيا وتأثيرها في القارة السمراء أشار «ولد متالي لمرابط» إلى أن السنغال؛ تعد من أكثر الدول الإفريقية التي انتشر فيها الإسلام حتى شمل عموم البلاد، وذلك نتيجة لقربها من دولة موريتانيا العربية الإسلامية (أو بلاد شنقيط كما كانت تسمى قديمًا)، ووفود كثير من العلماء والدعاة الموريتانيين إليها، واستقرارهم بها، بل أكثر من ذلك، فإن كثيرًا من هؤلاء العلماء امتزجوا في بنية المجتمع وصاروا جزءًا مركزيًا منه. وأنشأ كثيرٌ منهم مدارسَ علمية كبيرة ظلت منهلاً ثرّا يرتوي منه طلابُ العلم المتشوقون إلى الإسلام، وتعاليمه السمحة، ولغته العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
وأضاف: تتمتع موريتانيا والسنغال بتاريخ عريق من التواصل العلمي والثقافي والسياسي والتجاري، فهما دولتان مسلمتان حدوديتان يفصل بينهما نهر صغير يسمى (نهر السنغال). وقد ظل العلماء الموريتانيون يفدون إلى السنغال لنشر الدعوة الإسلامية والعلوم الشرعية والعربية، كما تدفق إلى السنغال قديمًا كثير من البدو الموريتانيين الرحل للتجارة والرعي باعتبار أنها منطقة تتمتع بمناطق خصبة لرعي المواشي، وفي المقابل وفد كثير من السنغاليين إلى موريتانيا لطلب العلم على شيوخ المحاضر التقليدية فيها، فضلاً عن ارتباط كثير منهم بزوايا علمية وصوفية موريتانية شهيرة.