د. عبدالحق عزوزي
اختتمت منذ أيام القمة السبعين لدول حلف شمال الأطلسي في لندن، وأصدر قادة الحلف بياناً ختامياً مشتركاً أكدوا فيه «تضامنهم ووحدتهم» حول ضرورة مواجهة التحديات التي تواجههم بسبب تصاعد نفوذ الصين. وفي خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إلغاء مؤتمره الصحفي الذي كان مقرراً في ختام القمة بدون ذكر للأسباب. ويواجه الحلف بعد ثلاثين عاماً على سقوط جدار برلين تحديات هائلة ما بين عسكرة الفضاء وعودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية وصعود الصين كقوة عسكرية. لكن اللقاءات تمت في ظل تبادل الانتقادات عقب التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي اعتبر أن الحلف الأطلسي في حال «الموت الدماغي»، داعياً إلى مراجعة استراتيجيته؛ وقد أشرنا إلى تداعيات هذا التصريح منذ أزيد من ثلاثة أسابيع في هاته الصحيفة الغراء. وكان قد دعا الرئيس الفرنسي إلى استئناف «حوار استراتيجي» مع موسكو وطالب تركيا بتوضيحات حول عمليتها العسكرية ضد وحدات حماية الشعب الكردية، الحليف الرئيسي للدول الغربية في المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، متهماً أنقرة بالتعامل مع متطرفين قريبين من التنظيم.
كما شدد الرئيس الفرنسي مراراً على أن الإرهاب هو «العدو المشترك»، وقال ذلك بالحرف في لقاء مع الرئيس الأمريكي على هامش القمة «للأسف إنه ليس لدينا حول الطاولة التعريف نفسه للإرهاب». وحين لفت الرئيس الأمريكي إلى أن العديد من الجهاديين قادمون من أوروبا سائلاً ماكرون من باب المزاح إن كان يريد استرجاع بعضهم، رد الرئيس الفرنسي بنبرة جافة «لنكن جديين». ومن جانبه، لم يخف ترامب استياءه حيال تصريحات ماكرون الذي وصف الحلف الأطلسي بأنه «في حال الموت الدماغي» وندد بعدم القيام بمراجعة استراتيجية حيال روسيا والإرهاب، فأكد الرئيس الأميركي أن هذه التصريحات «مهينة للغاية» و»مسيئة جداً»، مشيراً إلى أن «لا أحد بحاجة إلى الحلف الأطلسي أكثر من فرنسا». وأوضح الرئيس الفرنسي أن الهدف من تصريحه كان تحفيز الحلف والتنديد بالقرارات الأحادية التي اتخذتها الولايات المتحدة وتركيا بدون تشاور والتي عرضت للخطر العمليات ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» الجارية في سوريا بمشاركة قوات من بلدته ومن دول حليفة أخرى.
يقيني أن فرنسا تعي أكثر من غيرها هذا الوضع الإقليمي والعالمي الجديد؛ فتوقيت التصريح الذي أدلى به لمجلة ذي إيكونوميست، ومرور ثلاثين سنة على سقوط حائط برلين، والدور التركي-الروسي في المنطقة بعد الثغرة التي تركها الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا، كل هذا يجعل من قواعد النظام العالمي القديم نظاماً تآكل عليه الزمن ومن أوروبا لاعباً ثانوياً، ويجعل الحلف الأطلسي في موت سريري كما أسر بذلك علناً الرئيس الفرنسي وكان متواجداً آنذاك في الصين وليس في أوروبا في عز الاحتفال بمرور ثلاثين سنة على سقوط الجدار؛ وقد وقعت فرنسا والصين عقوداً تجارية بقيمة 15 مليار دولار، فلم تعد فرنسا تلك التي تقايض دولاً أخرى في تعاملها التجاري بانفتاحها السياسي واحترامها لحقوق الإنسان والحريات العامة، بل أصبحت تبحث عن الربح التجاري والاقتصادي والاستراتيجي في عالم جديد تطبعه الأنانية والمصالح القومية والتسلح المفرط والاعتماد على النفس.
وأخيراً في سنة 2008 كان مجموع القوات العسكرية التي كانت منتشرة مباشرة تحت مظلة الحلف الأطلسي 168000 عسكري وانتقص العدد ليصل إلى 16000، لأن قوة أي حلف ليس بقوة عدد جيوشه المنتشرة، وإنما بقوة تحالف دوله، وبقوة ونوعية الأسلحة المستعملة وخبرته الاستراتيجية والاستخباراتية والتنظيمية والتدخلية. فلم نعد في الحروب القديمة حيث قوة العدو تحسب بعدد الخيلة وإنما بقوة ودقة السلاح المستعمل.. وهاته الاستراتيجية للتقليل من عدد الجيوش والرفع من قوة التدخل ودقة التخطيط أعطيت للمسؤول الثاني في الحلف القائد الأعلى المكلف بالتغيير (SACT) حيث مقره متواجد ليس في بروكسيل وإنما في نورفولك (NORFOLK) بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث قوة الاختراعات العسكرية والتطور العسكري المدهش؛ ولا غرو أن الصين تعتبر هي المستقبل العالمي للذكاء الصناعي وللذكاء العسكري في أعلى تجلياته، وهذا ما فهمه الرئيس الفرنسي الشاب قبل زملائه الألمان والأوروبيين؛ ولا أظن أن أمريكا سترى بعين راضية إلى هذا التقارب الفرنسي - الصيني، وستفعل كل ما في جهدها في إطار النظام العالمي الجديد لإيقاف هذا التحالف.