أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
ابن رشد الحفيد: يصف كتابه الذي جعله حاكماً على شرع الله؟؟!! ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
قال أبو عبدالرحمن: قدّم (ابن رشد) لكتابه (بداية المجتهد 1/21) بقوله: ((أما بعد حمد الله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه: فإنّ غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها، والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها: ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع؛ وهذه المسائل في الأكثر: هي المسائل المنطوق بها في الشرع، أو تتعلق بالمنطوق به تعلّقاً قريباً؛ وهي المسائل التي وقع الاتّفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميّين من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلى أن فشا التقليد)).
قال أبو عبدالرحمن: وصف (ابن رشد) مسائل كتابه بوصفين: أحدهما أنّها منطوق بها في الشرع، أو قريبة من المنطوق به؛ ولم يفسّر، ولم يمثّل.. وثانيهما أنّها ممّا وقع العلم به للسّلف؛ وليست من النّوازل المستجدّة؛ لأنّها ممّا أجمعوا عليه، أو اختلفوا فيه؛ فعلمهم بها حاصل على الأمرين.
قال أبو عبدالرحمن: هذه المسائل الفقهية أراد أن يؤسس عليها اجتهاده فيما يتصوّر من مسائل سكت عنها الشرع، أو يتصوّر نوازل استجدّت؛ وأراد أيضاً بيان نكت الخلاف، وأسبابه، وتحرير محلّ الخلاف ممّا يعين على الإحاطة بمأخذ الأحكام من الشريعة؛ ثم قال: (وأهل الظاهر ومن وافقهم: يمنعون من وقوع دعوى وقائع سكت الشرع عن حكمها؛ بل كلّ ما وقع للبشر، أو سيقع لهم: قد تكفّل الله في شرعه ببيان حكمه؛ وإنّما يتصوّر سكوت الشرع عن وقائع بأسمائها؛ وأمّا أحكامها: فإنّه منصوص عليها بالمعنى والوصف؛ وغاية المجتهد أن يبحث ليكتشف حكم الله؛ وحينئذ يجد ما نصّ باسمه وبيّن بحكمه، ويجد ما نصّ الله سبحانه وتعالى على حكمه بالوصف والمعنى كبعض صور التأمين: فإنّها تحرم بمعان فيها كالربا والغرر مع أنّه لم يرد الشرع عن عقد التأمين باسمه؛ وما لم ينص على اسمه، ولم يوجد في معانيه وما يقتضي وجوبه، أو استحبابه، أو كراهيته، أو حرمته، أو فساده؛ فالأصل فيه الإباحة والصحة لحديث (أبي هريرة) رضي الله عنه: (وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان..)، وما في معناه؛ وقبل ذلك فلنذكر كم [هي] أصناف الطّرق التي تتلقّى منها الأحكام الشرعية، وكم [هي] أصناف الأحكام الشرعية، وكم [هي] أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف بأوجز ما يمكننا في ذلك؛ فنقول: (إنّ الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي عليه الصلاة والسلام بالجنس ثلاثة: إمّا لفظ، وإمّا فعل، وإمّا إقرار؛ وأمّا ما سكت عنه الشارع من الأحكام فقال الجمهور: إنّ طريق الوقوف عليه هو القياس، وقال أهل الظاهر: القياس في الشرع باطل، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له؛ ودليل العقل يشهد بثبوته؛ وذلك أنّ الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية؛ ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى)).. انظر كتاب (بداية المجتهد) 1/21- 22.
قال أبو عبدالرحمن: أسلفت أنّ سكوت الشرع عن بعض الأحكام دعوى خيالية لا وجود لها؛ والقياس إمّا أن يكون من شرع الله؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى طلب أخذ بعض الأحكام منه؛ وإمّا أن لا يكون من شرع الله سبحانه وتعالى؛ فإن كان من شرع الله سبحانه وتعالى: فما ثبت به من حكم فليس مسكوتاً عليه؛ بل هو منصوص على معناه؛ وإن كان من غير شرع الله سبحانه وتعالى: فلا يتحقّق به إثبات حكم شرعيّ ادّعي أنه قبل أخذه بالقياس أنّه مسكوت عنه؛ وأهل الظاهر لا يقولون: ما سكت الشرع عنه فلا حكم له؛ وإنّما يقولون: الشرع لم يسكت عن بيان الأحكام البتة؛ وأمّا الوقائع التي لم ينص الشرع على اسمها فيبحث المجتهد عن أحكام معانيها وأوصافها؛ فإن لم يجد حكماً يعيّنه اجتهاده الشرعي: استصحب أصل الإباحة.. وقول ابن رشد: ((ودليل العقل يشهد بثبوته)) يراد به القياس؛ لأنّ ضمير ثبوته عائد إلى القياس.
قال أبو عبدالرحمن: القياس فعل للتقدير بين شيئين ينتهي بتسوية أو تفريق؛ فإن كان الشرع أمر بهذه الطريق بإطلاق، أو في مكان معين، أو في كلّ مكان بقيود ترد على عمل القياس: فالقياس دليل شرعيّ؛ وإن انتهى القياس إلى تسوية قطعية، أو تفريق قطعيّ: فهو دليل عقليّ؛ وهو دليل شرعيّ، ولم يرد بإعماله نصّ شرعيّ؛ لأنّ يقين العقل ورجحانه حجة في فهم الشرع ما لم يرد النص على أنّ الحكم على التوفيق ولا دخل لنظر العقل فيه؛ وإن انتهى القياس إلى ظنون بغير رجحان فليس دليلاً عقلياً، ولا يكون دليلاً شرعياً إلا بنصّ جليّ يأمر بالأخذ بواحد من الظنون العقلية بلا رجحان؛ وأمّا ما قرره (ابن رشد) عن تناهي النّصوص، وتدفقّ الوقائع: فهو أمر صحيح في نفسه؛ ولكنّ البطلان لما بناه (ابن رشد) على هذا القول؛ وذلك من ثلاث جهات: أولها جعله تدفّق الوقائع حجةً على ثبوت القياس؛ ووجه ذلك دعوى الضرورة؛ لأنّ الوقائع غير المتناهية محال أن ينصّ عليها في نصوص متناهية؛ فأصبحت معرفة حكم ما لم ينص عليه بالقياس: ضرورة؛ ولذلك زيادة تحقيق منذ يوم السبت القادم إن شاء الله تعالى. والله المستعان.