مصعب الداوود
هي الأم، لا تحتاج إلى شرح أطول، ولا إلى تعريف أكثر، يتعلَّم منها المرء دروساً مجانية في العواطف، تلك العواطف التي لا تخضع لقانون المصالح، عواطف صافية نقيَّة طاهرة، لا يمكن لتلك العواطف أن تخونك في يوم ما، بل هي ثابتة كأغصان الشجرة، وعميقة كجذورها، إنها الأم الصابرة والأم الحنون، ستفاجئك الأيام عندما تمر كمرور البرق أنك لم تعرف قدرها ولم تقدِّر حقها، وستكون حسرة أليمة وعظيمة عندما تفقد (نبع الحنان)، ففراقها ليس كفراق أي مخلوق، بل فراق عظيم وصعب على المرء أن يتجاوزه. إن الأم لتسجل أروع التضحيات في سماء التاريخ، إن تلك التضحيات لا تُعد ولا تُحصى، من يتخيَّل أنه في أقسى أيام الفقر، وأصعب أيام العوز، وعندما تتعب الأم ويشتد ألمها، وعندما يأخذ الجوع والخوف منها كل مأخذ، تقوم لتطمئن على أبنائها وفلذة كبدها الذين لربما لا يعانون عارضاً صحياً ولا يشكون جوعاً، ولكن الأم بطبيعتها تنسى آلامها وكأن آلامها انتقلت إلى أبنائها، وكأن أبناءها أكثر أهل الأرض بؤساً، والعجيب هو أن الأم لا تحمل في قلبها الطاهر أي غل أو حقد على أحد من أبنائها إن كان ظلمها أو قصَّر في حقها، بل ترجو له التوفيق وتبتهل إلى ربها وتسأله أن يحفظ لها ذلك الولد، وعندما تكبر الأم، وتصل إلى مرحلة الشيخوخة، فإنها -ويا للعجب- تنسى ظروفها وشؤونها، وهي إذ ذاك تعاني أمراضاً جساماً، وآلاماً عظاماً، تنسى أو تتناسى تلك الأمراض وتكرر ذاك الاهتمام الكبير بأبنائها وهي في مرحلة الشباب والقوة، فهي رأس للوفاء الذي كان يجب أن يبادر الابن أمه به، وكثيراً ما تغنى الشعراء والأدباء بالأم ووصفوها في دواوينهم وصفاً واقعياً ولا أقول مثالياً، لأن واقعية الأم هي أعلى درجات المثالية، ويكفي قول شاعر النيل الكبير أحمد شوقي عندما تغنَّى بالأم بقوله:
(الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق)
نسأل الله أن يغفر لأمهاتنا أحياءً وأمواتاً، ونسأله سبحانه أن يحفظ الأحياء منهن، ويوفِّقهن لكل خير.