سليمان الجاسر الحربش
في الوقت الذي تتبنى فيه الأمم المتحدة الأجندة الدولية المعروفة بأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر وما يتطلبه تنفيذها من مبالغ باهظة، وفي الوقت الذي يعيش فيه أكثر من 10 بالمائة من سكان العالم تحت خط الفقر (1.90 دولار باليوم)، ويعاني فيه أكثر من 1.2 بليون نسمة في العالم من الحاجة الماسة للطاقة النظيفة، الأمر الذي حدا بالبنك الدولي بأن يتبنى شعارًا حفروه على مدخل مقره الرئيس في واشنطون العاصمة
Our dream is a world free of poverty
حلمنا: عالم خال من الفقر، وقبله صندوق أوبك للتنمية الدولية (أوفيد) متحدون ضد الفقر Uniting against poverty.
في ظل هذه الظروف وتداعياتها يتساءل البعض عن جدوى صناديق التنمية بأهدافها الراهنة، ويأتي التساؤل من البعض على شكل أسئلة، مثل: ما الغرض من هذه الصناديق، ولماذا أُنشئت، وما الفرق بينها وبين البنوك التجارية؟ وهل لا زالت الحاجة ماسة لها، وهل وجودها جزء من شعور الدول المالكة بالمسؤولية الدولية؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا ترتبط بوزارات الخارجية بوصفها أحد أدوات تنفيذ السياسة الخارجية للدول المانحة؟!
تنقسم صناديق التنمية من حيث التبعية إلى ثلاثة أقسام: وطنية، إقليمية ودولية، تشمل الصناديق الوطنية في منطقة الخليج العربي: الصندوق السعودي للتنمية، والكويتي وأبوظبي والقطري.
أما الإقليمي وأفضل مثل عليه مجموعة البنك الإسلامي في جدة الذي يخدم أعضاء منظمة التعاون الإسلامي، وأخيراً الصناديق الدولية وأفضل مثل على ذلك هو صندوق أوبك للتنمية الدولية (أوفيد)، الذي تملكه الدول الأعضاء في منظمة أوبك (وليس المنظمة نفسها)، ويعم نشاطه كل الدول النامية في العالم بصرف النظر عن الإقليم أو الجنس أو الدين.
لماذا صناديق التنمية؟
تُعدُّ المملكة العربية السعودية من أكبر الدول الرائدة في تقديم المعونات وعلى أساس نسبي تنفق المملكة أكثر من 6 % من دخلها الوطني على مساعدات التنمية، وهو رقم لم تحققه أي دولة في العالم. وكلنا نذكر كيف كان هذا الدور ينفذ من خلال العلاقات الثنائية التي كانت تتم أثناء زيارات رؤساء الدول للمملكة، خلال حكم العاهلين الراحلين سعود وفيصل، وفي عام 1974م قرر الملك فيصل - رحمه الله - إنشاء الصندوق السعودي للتنمية الذي يتولى حسب نظامه (المساهمة في تمويل المشروعات الإنمائية في الدول النامية وتقديم منح للمعونة الفنية لتمويل الدراسات والدعم المؤسسي). وتُقدم هذه القروض بشروطًا ميسرة، حيث تصل مدة القرض 30 سنة ومدة السماح 10 سنوات وتكلفة القرض لبعض الدول الفقيرة لا تتعدى 1 %.
أما في دولة الكويت فقد أُنشئت الصندوق الكويتي للتنمية عام 1961م لمساعدة الدول العربية، ثم عدل نشاطه ليشمل كل الدول النامية عام 1974م على نحو يضاهي أعمال الصندوق السعودي، لكن ما يحمد للأشقاء في الكويت أن إنشاء الصندوق كان أول قرار إستراتيجي تتخذه الدولة بعد الاستقلال، ومن هذين المثالين يتضح الفرق بين صناديق التنمية والبنوك التجارية.
في مطلع 1975م عقدت أوبك أول قمة لها في مدينة الجزائر وأصدرت بياناً تضمن بنودًا عدة، تتعهد فيها دول المنظمة بمساعدة الدول النامية (البند 9 وما بعده)، وهناك وُلدت فكرة إنشاء صندوق أوبك أو أوفيد كما عُرف فيما بعد بشخصيته المستقلة.
وفي عام 2000م عقدت أوبك قمتها الثانية في كاركاس بفنزويلا وأصدرت بياناً جددت فيه الدول الأعضاء تعهدها في مساعدة الدول النامية، وأعلنت قبل الدول الصناعية أن القضاء على الفقر هو أهم أولويات تلك الدول، وأكدت مع ظهور حملات البيئة والتغير المناخي أن الفقر هو أكبر الكوارث البيئية التي تواجه الكون.
أما في قمة أوبك الثالثة التي استضافتها المملكة العربية السعودية فقد أفردت بنداً خاصاً للطاقة والتنمية المستدامة، وأكدت استمرار دعمها لرصيفاتها من الدول النامية، وفي البند السادس من الفصل الثاني من بيان الرياض الذي ساهمت في إعداده أيدٍ سعودية تبنت القمة لأول مرة وقبل الأمم المتحدة بأربع سنوات مشكلة القضاء على فقر الطاقة (كما عرفتها في صدر هذا المقال)، وطالبت صناديق التنمية وصندوق أوفيد بالبحث عن الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك.
ولو نظرنا إلى صندوق أوبك (أوفيد) الذي تكررت الإشارة إليه في بيان قمة الرياض باسمه المختصر لوجدنا أن نظامه الأساس ينص على أن غرضه الأساس هو مساعدة الدول النامية وتصنف المادة الثالثة من نظامه المستفيدين من نشاطه وهم حكومات الدول النامية عدا الدول الأعضاء في أوبك، وتخص بالمعاملة الدول الأكثر فقراً.
أما نشاط «أوفيد» فيتم من خلال القروض الميسرة والمنح التي كان لها أكبر الأثر في تعميق العلاقات بين الدول الأعضاء والمستفيدين سواء كانوا دولاً تلقت قروضًا ميسرة لبناء المدارس والمستشفيات والطرق أم أفراداً استفادوا من برامج المنح بشكل عام مثل أفراد الشعب الفلسطيني (طلاب، أطفال غزة، أسر الشهداء والسجناء الفلسطينيين)، ثم المنح الدراسية التي استفاد منها عشرات الطلاب المعدمين خاصة في إفريقيا، والجائزة السنوية التي استفادت منها جهات مستحقة مثل مراكز السرطان في عمان والقاهرة ومركز الكفيفات في عمان وبرنامج زراعة قوقعة السمع لأطفال غزة الذين فقدوا هذه الحاسة جراء القصف الإسرائيلي الغاشم، وتمويل وحدة الجراحة في المستشفى الأهلي بالخليل وهي تحمل اسم أوفيد، وبناء ثلاث مدارس وتجهيزها في مخيم نهر البارد في لبنان ومثلها في مخيم شعفاط بالقدس.
هذه أمثله لتاريخ مشرف لمؤسسة تسهم المملكة فيها بنسبة 34.5 % من مواردها، أسهم في كتابة هذا التاريخ بكل الشكر والتقدير ممثلو المملكة في المجلس الوزاري ومجلس المحافظين، ومع أن هذه المؤسسة تمر بمرحلة انتقال وهو أمر لا غبار عليه إلا أنني أتمنى أن يظل نظامها الأساس بأهدافه النبيلة بمنأى عن التعديل والتحريف بأي شكل كان، خاصة أن المشرع أتاح في المادة (8) قدراً من المرونة يستطيع المجلس الوزاري وهو السلطة العليا أن يفسرها كما يريد.
وخلاصة القول أن صناديق التنمية وهي جزء من أركان السياسة الخارجية للدول الأعضاء، وهي بذلك تمد جسور محبة بين المانحين والمستفيدين. ولا شك أن حملة القضاء على الفقر وفقر الطاقة على وجه الخصوص - وهما أهم البنود في أهداف التنمية المستدامة وجزء لا يتجزأ من سياسة المملكة العربية السعودية - سيعودان إلى الأضواء في قمة العشرين التي ترأسها وتستضيفها المملكة في دورتها القادمة 2020م في الرياض بقيادة ورعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (نصير الفقراء والمستضعفين) وولي عهده الأمين وحكومته الرشيدة.