د. محمد بن إبراهيم الملحم
المدرسة مكان تلقي المعرفة، ولكن هل هي أيضا مكان تلقي الفكر؟ سؤال قد يبدو تافها لبعضنا وقد يبدو صعبا لبعضنا الآخر، فهو تافه لمن لا يجد فرقا بين الفكر والمعرفة وصعبا لمن يعتقد أن الفكر مفهوم مركب وعميق، ولكن قبل أن أحاول الإجابة على هذا السؤال لأشرح قليلا ما هو «الفكر»؟ أو Nous كما تقدمه الفلسفة، فهو في أبسط تعريفاته الكلاسيكية: قدرة البشر على معرفة الأشياء، وهو في تعريف أشمل النشاط العقلي المبذول لاستكشاف المجهول، وأدواته: التحليل والاستنتاج وحل المشكلات والتأمل والمراجعة، وقد عرفه بعضهم بأنه إعمال الحواس الرئيسة الثلاث: السمع والبصر والفؤاد (كل أولئك كان عنه مسئولا) وذلك من أجل معرفة الحقيقة، والشخص الذي يستخدم العقل بعملياته النقدية والتحليلية بصفة مهنية منظمة يسمى «مفكر». ومن هنا نجد أن الفكر ليس هو المعرفة ولكنه مدخل مهم من مداخلها إلى كيان الإنسان وهو وسيلة أو أداة أو طريقة لتعاطي المعرفة، فهو إطار عام للإنسان يتحرك به في زوايا المعرفة والثقافة والمحسوس والمجهول على حد سواء.
من هنا فإن المدرسة يجب أن تصبح مكانا لتلقي الفكر أو فلنقل لبناء الفكر، لكي يغدو خريجو المدارس «مفكرين» ولن أقول مثل مالك بن نبي أو ابن رشد أو الغزالي أو ديكارت أو هيغل أو نيتشه ولكن يكفي أن يحمل المتعلم فن التفكير، لا أن يكون مجرد خزانة تمتلئ معرفة وعلما دون أن تكون له بصمته على هذه المعرفة، وعندما أقول بصمته فلا أعني أنه يضيف إلى العلم والمعرفة بل هو يضع هذه المعرفة في ذهنه بسياقات وتنظيمات وقناعات بناها على ما لديه من أدوات «فكرية» تأسست في المدرسة أيضا وبالتالي تتموضع المعرفة في كيانه ببصمته الذاتية، وهكذا تبدو المعرفة عادة في كيان المفكر الداخلي. والسؤال التطبيقي هنا: ماذا يعني هذا؟ هل تكون لدينا مادة جديدة اسمها «الفكر» فالجواب لا طبعا، وأنا ضد إنشاء مادة خاصة لكل شيء يطرأ على بالنا، وإنما يجب أن تتضمن مناهج التعليم باختلاف موضوعاتها ما يدعم التوجه نحو تكوين الطالب «المفكر» فهو طالب يحمل أدوات التحليل والاستنتاج، ويجيد استيعاب أفكار النص مثلما يجيد لفظ قراءته وتلاوته، كما أنه يتمكن من المقارنة العادلة، ويحسن استخدام المنطق، بل هو يعرف أنواعه وأدواته، ويتقن أخلاقيات المناقشة والحوار لكثرة ممارسته لهما، وقد تشبع وجدانه بتقبل خطأ الذات وتقدير صواب الآخر، ولديه معايير للحكم، ومناهج واضحة للتقييم، كل هذه مهارات وأسس يمكن وضعها ضمن المناهج من خلال تطبيقات تعكسها وهي كثيرة ومتنوعة وتصلح أن تبذر أو تستنبت في أية مادة من مواد المناهج الدراسية، فطرح الأسئلة نحو التناقضات الظاهرية وإثارة التفكير في السببية، وطرح التساؤلات المعمقة، وتحفيز الاستنتاج الإثرائي كل ذلك وأمثاله عمليات سهلة التداول في الموضوعات المختلفة، ويبقى تركيبها في ثنايا موضوعات المناهج المختلفة بذكاء واحترافية، مع وضع أدلة تنفيذية للمعلمين تساعدهم على حسن التنفيذ.
وعندما نشير إلى المعلم فيجب أن نقرر هنا أن كل ما سبق لا يكون من خلال معلم يفتقر لأغلب هذه المثل والقيم الفكرية ولا من خلال معلم سيمثل هذه الأدوار متبنيا لها لحاجة في نفس المنهج المقرر! وعلى الرغم أنه يصعب تغيير قناعات مئات الآلاف من المعلمين الذين في الخدمة اليوم وكذلك تدريبهم هم أنفسهم ليتقنوا هذه المهارات... لكنما يجب «البدء» في بناء هذا المجال في الأجيال الجديدة منهم على الأقل، وهو أمر يمكن تحقيقه بالجهود المخلصة والنوعية، ويستحق البذل وتخصيص الميزانيات من أجله، كما أن طلاب اليوم هم معلمو الغد وسينشأون على هذا الأساس لتكون المهمة معهم سهلة ميسورة مستقبلا ثم سننسى في مستقبل بعيد (أو ربما قريب!) أننا تاريخيا طالبنا عام 2019 بتعليم طلابنا ليكونا مفكرين، وعندما نتذكر ذلك أو يعلم عنه أحفادنا سيبتسمون.