د. خيرية السقاف
يوسم الزمن بالبشر الذين يعيشونه, والوقت بمن يمضون فيه منهم..
لذا يُقال عن الماضي: زمن الطيبين، وعن هذا القائم, زمن الفوضى الخلاَّقة, والعولمة, والثورة « التكنولوجية», فهو في الواقع زمن الماديات بكل جمودها, وجفافها, وقسوتها, ووحشتها, وغربة أهله, حيث بهتت العلاقات الإنسانية حتى مع النفس, وتشظّت مع الآخرين حتى بين الأهل في بيت واحد ...
إذ إن الماديات المهيمنة بقدر ما تزيد الإنسان شغفاً للمعرفة, والإقبال على التفاعل مع معطياتها فإنها تقصيه عن الندى, والتفاؤل, والوداعة, والجمال ...و... و ...
مع أنني لم أستسغ وسم الماضي بزمن الطيبين, لأنهم هناك, وهنا, وفي كل زمن, ووقت, كما أن هناك, وهنا من ليسوا, وفي كل زمن, ومكان..
لكن الحقيقة أن هذا الزمن تغلب فيه سمة المادية, ولها أوجه, إذ ليس كل مادي سالباً, وليس كل ما ليس مادياً أيضاً هو موجب..
ففي حدود سلوك البشر في هذا الوقت فإنه يتجه مع معطيات الحياة لأن يكون زمن المادة, أي زمن المال, زمن التنافس من أجل الثراء, أو على الأقل البراء من الفاقة, فكل منتجات الحياة لكي يستطيع الإنسان أن يحيا فيها عيشاً طيباً عليه أن يحقق من الدخل المادي ما يمكن له الحد الأدنى من المال كي يسكن, ويأكل, ويشرب, وفي الليل يستضيء, وفي النهار ما يوصله لوجهته, فالمسافات طالت, والمدن شسعت وامتدت, ومواقع الأعمال لا تصل إليها أقدام راجلة, وبالتالي كثرت الأمراض فهو يحتاج للتطبُّب, وهو يستهلك دواء, والدواء بمقابل مادي, ويستهلك مواصلات وهي تحتاج لمؤونة, والمؤونة تحتاج للنقد, وهو يحتاج للتعلّم ومتطلباته كثيرة, والغذاء ومكوناته عديدة, و... و... فالمادة نقود, والمادة ونقود, والمادة نقود ونقود...
فالزمن إذن موسوم باحتياجاته, ومنافعه, وكل أمر وإن صغر في خدمة الإنسان, ولتيسير معاشه عليه أن يوفره بالمادة, بالنقد, مع تفاوت استهلاك الأفراد, ومستوى معيشتهم, ..
الشاهد في الأمر أن الزمن هذا الذي علت فيه هيمنة الماديات, ورفع فيه الحصاد المالي أنفه, وشمخ على جميع ظروف الواقع كشفت معطياته عن تبدل كثير من قيم التعامل, وسمات الانتماء, ومتانة العلاقة بين جهة العمل, ومردوده المادي, وبات المرء يركض من أجل أن يوفر ما يعينه على الحياة, ويحقق فيها طموحاته, ولئن كان الأثرياء يعملون ليضاعفوا من أرصدتهم, ويثبتوا أقدامهم في متسع خزائنهم, فإن الميسورين يسعون لكي يعيشوا مطمئنين, لا يتعرضون لفاقة, بينما الذين ليسوا من أولئك, ولا من هؤلاء فإن هذه الماديات التي فرضت ذاتها على مساحة الواقع الذي يعيشون مضنية لجهودهم, مشتتة لطموحهم, تضعهم بين مطرقتها وسندانها..
ليسوا أناساً وحدهم من وقعوا بين فكيها, بل مؤسسات أعمال كبرى, ولعل نموذجها الأول مؤسسات الصحف, ومتعلقاتها من موزعين, ومنتمين, غلبتهم سطوة النشر «التكنولوجي» بمادياته الصرفة من أجهزة, ومنصات, ووسائل استغنت عن الإنسان, وذخائر الطبيعة الورق, والأقلام من الشجر, فتشظت علاقتها بكثير من منسوبيها, وهي تصارع من أجل البقاء وسط هذا الكون المادي الخانق لندى الطبيعة, ولزخم روائحها المنشية, المبهجة التي اعتادتها ...