رمضان جريدي العنزي
ولدت في ليلة شتوية باردة وهاطلة بالمطر في أرض قاحلة ونائية وخالية إلا من بيوت شعر متناثرة ومتباعدة، لفتني أمي بقماش أبيض طوله يصل إلى متر تقريباً جاءت به بعض النسوة خصيصاً لهذا الحدث شدته بخيط سميك بشكل دائري ومحكم، هدنتني بحنو، ثم دعت الله لي طويلاً، لم يمض على ولادتي سوى أشهر معدودة حتى توفى الله والدتي دون أن أعرف تفاصيل وجهها الطاهر، عشت اليتم بعدها وتجرعت مرارته صبياً وفي صدر حياتي، في البادية التي ولدت فيها لا شيء فيها، لا أشجار تتشابك تفيء ظلاً، ولا أغصان تنمو، والليل فيها طويل، والرحيل دائم بحثاً عن الغيم والمطر، والخيالات مشوشة، وحجرها الأصم يوحي بشيء ما، وعندما يجيء الربيع تصبح الأرض متوهجة بالخضرة والديدحان والشيح والقيصوم والنيتول والعشب نابت ومبلل بالندى، أبداً مثل لوحة نافرة بالجمال، حيث الغدير والقطاء والفراشات وأعشاش العصافير، ومنظر السماء بهي أخاذ وجميل، وتعاليل الليل القصيرة نفحة فرح وانتشاء وسعادة، هذه هي حياة البادية رحيل ثم نزيل، وبعد النزيل رحيل، يبحثون عن الغيم والكلأ، يجمعهم الشتاء ويفرقهم الربيع، كلٌ مشغول بنفسه وأهله ورزقه ويتعاونون فيما بينهم، لا يتركون الضعيف، ويمنحونه العطاء، كلٌ على قدره وسعته، حياتهم كد وتعب ومشقة، وخوف وتوجس وترقب وغزو وغارات، لكنها مليئة بقصص الكرم والنبل والشهامة والوفاء، زخم كبير من جماليات ذاك الزمان، يعصف بالذهن، وكأنها دراما نبيلة، لذاك الزمان مخرجات وتداعيات ومواقف وقصص غاية في العجب، تشكل خامة متينة لذاكرة مكانية وزمنية لها مرويات وسرديات مازالت تروى من أفواه الرواة، مشاهد تأتي بها الذاكرة بسرعة البرق، ولها حضور فاتن سيما حين يكون الذهن صافياَ، ويعيش المرء حالة التأمل، عندها يكون المشهد بانوراميا أخاذا، له قوة التأثير والتأمل، مشاهد متنوعة لن تنمحي صورتها إلا بعد وداع الحياة، أبدا مثل الأخرس حينما يحاول أن ينطق بالقصيد الجميل، لكنه يعوضه بحركة الإشارة والإيماءة والجسد، وبالرغم من الدوافع النفسية لاستنطاق الماضي، يكشف المرء أن الفعل الصامت يكون أقوى تأثيرا من المعايشة، سرديات ومرئيات ومشاهد ومواقف لها تنوعات كثيفة، لها نحيب وأوجاع وأنين وفقد وفاقة ومرض، كل ذلك يحصل بعد أن يسترجع المرء بعضا من صور الماضي التليد، الآن نحن نعيش الرخاء الذي بلا تعب، والأمن الذي لم يكن، وتخلصنا نهائيا من المعاناة وشظف العيش، ومرارةلركض المستمر في الفيافي والأودية ومعاناة الرياح العاتية، والقر والحر، والعوز والجدب والمرض وشح العافية، ونقص الدواء، ننام على الأسرة الوثيرة، ونلتحف بالمخمل، نسقي الشجر، ونشذب الحديقة، ونعتني بالزهر، ونتربع على عرش الهناء، في وطن كبير اسمه المملكة العربية السعودية، فيه نحتضن الحياة الجميلة بكل تفاصيلها، ونضحك بملء الفم، نرقص مع المطر حين يجيء، ونناغي النوارس حين تحط وتطير، ويبهرنا لون الطيف، والغروب والغسق، نبحر ما بين الضفة والضفة، ونسافر حينما نريد السفر، ولا تمنعنا الموانع، لا يأخذنا الخوف، ولا يشوبنا الهلع، ولم يعد الماضي عندنا سوى شواهد وذكريات وأطياف وروايات عابرة، نقصها على أبنائنا وأحفادنا، وفي مجالسنا العامرة.