د. حسن بن فهد الهويمل
وللاختلاف خُلِقْنا, كل إنسان تحكمه عدة أنساق:
- نسقه الثقافي (الفردي) الخاص به, وبخاصة القارئ النهم, الذي يستبطن ثقافات العصور الخوالي, وتَفْصله قراءتُه عن واقعه.
- نسقه (الجَمْعِي) الذي يحكم الجماعة. وهذا النسق يؤلّف بين أطياف الأمة, من المكونات السكانية. إن هناك (عَقلاً) جمعياً, و(مَعِدَةً) جمعية تختلف عن الفرديات.
قد يضعف (النسق الجمعي) في بعض الفترات, فتضعف معه (اللحمة الوطنية), ويسهل اختراقها من أي خطاب: فكريٍّ, أو سياسي, أو ديني مخالف لنسق الأمة.
(النسق الفردي) يحكم الذات، إذ لكل إنسان أجواءٌ عامة, وأجواءٌ خاصة. والأجواء الخاصة غالباً ما تكون عارضة, أي غير ثابتة.
أما أجواء الأمة, فهي أقرب إلى الثبات, كأن يكون المجتمع: فقيراً, أو أمياً, أو مجتمعاً زراعياً, أو صناعياً, أو رعوياً.
وقد تكون الأجواءُ السياسية غيرَ ملائمة: بذاتها, أو بسبب الظروف المحيطة. وكل هذه لها أدوارها في تصرّف الأفراد, والجماعات.
العالمُ, والمفكرُ قد يَصْنَعانِ أنساقهما الفردية, ذلك أن القراءة لها دورها في تقليص (النسق الجمعي), وتكريس (النسق الذاتي).
للعالم, والمفكر عالمهما الخاص, المغاير تماماً لنسق (الرأي العام), بل أكاد أجزم بأن هذين يسهمان في تشكيل الأنساق الثقافية للمجتمع.
يُجَسِّدُ النسق الثقافي العام آية:
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون}.
فالأمة: الطريقة, والملة, والسلوك. وتكون الجماعة, والزمن ذلكم هو النسق الذي يلغي التفكير, أو يَشُلُّه.
(غاندي) و(نهرو) وعمالقة الفكر, والسياسية الهندية لا يجدون قدرة على التخلص من أنساق أمَّتهم الخرافية, (تصنيم البقر).
قد يخترق النسقُ الفردي ثغرات النسق الجمعي, فيحدث ارتباكاً في أوساط المجتمع, وهزات فكرية مخلة باللحمة الجمعية.
من هنا نشأ الاختلاف, وأصبح الناس شيعاً: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون}.
الأهم ليس في توحيد الكلمة, وإنما هو في حسن إدارة الاختلاف, وتحويل الحجاج إلى حوار حضاري, ينشد الحق, لا إلى صدام ينشد الانتصار.
الصراع حين يكون من سنن الله الكونية, يتعذّر القضاء عليه.
غير أن مفهوم (الصراع) عند القوي المسيطرة, يختلف عن مفهومه بين الخلطاء:
- الصراع من أجل السيطرة.
- والصراع من أجل التمحيص, وإظهار الحق.
الجدل للغلبة يعمق الخلاف.
والجدل للبحث عن الحق يؤلف بين القلوب.
ليكن همك الحق, لا الانتصار. وهدفك الوفاق, لا الشقاق. تكسب السمعة الطيبة في الدنيا, والثواب العظيم في الآخرة.
إذا سلّم العقلاءُ للاختلاف, هان عليهم العمل المشترك, وذهبت الشحناء, والخوف.
تعالوا لكي نختلف بحثاً عن الأفضل. لا تواجه الاختلاف فهو أزلي, واجه المستقر في الأذهان من أخطاء بينة الخطأ, أو مفضولات سهلة الاستبدال بالذي هو خير.
الحياة المعاصرة أكثر تعقيداً, وأقرب إلى التأزيم, لأن أطرافها يتناجون بالإثم, والعدوان, ومعصية الحقائق الدامغة.
وسائل الاتصال, والانفجار المعرفي, وسرعة الوصول إلى أية معلومة في أقل وقت, وأهون جهد, جعلت مسؤولية المُصْلح شاقة, لأنه لا يوصل معلومة, ولكنه يستل خطيئة.
الناس تمرّدوا على وسائل التعليم, والتربية التقليدية (البيت, المدرسة, المسجد, المجتمع). وأصبحت وسائلهم الأربع مختزلة في آلة الإعلام الحديثة, والتي لا تملأ الكف.
كان المتعلِّم يسعى إلى العلم في مواقعه الجغرافية, وظاهرة (الرحلة في طلب العلم) حقيقة تاريخية. والرحالة يبذل الجهد, والوقت. أما الآن فالعلم يسعى إليه دون جهد, ولا عناء. كان المتعلم يحصر نفسه فيما هو محتاج إليه, أما اليوم فكل شيء بين يديه.
العالم الرباني, والملحد المتمرد. كلمة الحق, وكلمة الكفر. المحتشم, والمتبذل. السليط, والحيي. كل أولئك أقرب إلى الإنسان العادي من حبل الوريد.
كان (الفقه) يحتكره الفقهاء.
و(التفسير) يحتكره المفسرون.
و(الحديث) يحتكره المحدثون.
و(الفلسفة) يحتكرها الفلاسفة.
وكل فن تسعى إليه عند أهله, أما الآن فكل علم رهن إشارتك.
إذا رابك (حديث) عرفت درجته.
وإذا أعيتك (آية) وقفت على تأويلها, عند أكثر من مُفَسِّر.
وإذا شذ عنك (حكم) استدعيت رأي المذاهب كلها, ومُجْتهديها.
في جيبك مفتاح سحري أشبه بعفريت (سليمان) الذي قال له سأحضر لك (عرش بلقيس) قبل أن يرتد إليك طرفك, إنها ثورة الاتصالات, والانفجارات المعرفية المذهلة.
البراعة في حسن الاستثمار, ودقة الاختيار.