د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
المقصود بالحسابات الخاطئة هو القصور في تقدير العواقب، وحصر القرار في النظر للحاضر فقط دونما تقدير لحسابات المستقبل. وقد استخدم هذا التعبير جيمس بيكر وزير خارجية جورج بوش الأب في وصفه قرار صدام حسين لغزو العراق في أغسطس 1990م. وفي رأي الكاتب، تداعيات هذا القرار البعيدة على الدول العربية كافة كانت أكبر وأفظع من مجرد احتلال الكويت، وآثاره لا تزال مشهودة اليوم على طول وعرض العالم العربي.
فاحتلال دولة عربية لجارتها كان رصاصة الرحمة للتضامن العربي، الذي رغم تشكيك الكثيرين من المراقبين في فاعليته كان له تأثير معنويًّا وسياسيًّا على أقل تقدير في ردع تجاوزات القوى الخارجية على الدول العربية على الصعيدين السياسي والعسكري، وكان هناك حدٌّ أدنى من العمل العربي المشترك، تجلى في تلويح العرب بالدفاع عن أراضيهم بشكل جماعي ولو كان ذلك بشكل صوري. وكانت الدول الغربية وإسرائيل تسعى بكل ما استطاعت من قوة لإضعاف هذا التضامن. وقد ذكر الأمريكان صراحة خشيتهم عند قدوم قواتهم للمنطقة من تداعيات عربية محتملة، وطلبوا مشاركة دول عربية كنواة لتحالف في المنطقة، تقوده أمريكا، ويهدف إلى إخراج العراق من الكويت. وبدأ التحالف بحسابات واحدة، وانتهى بحسابات مختلفة؛ إذ بدأت كثير من الأطراف - فيما عدا دول الخليج بقيادة المملكة - بالبحث عن مصالحها الخاصة في منطقة أصابها التفكك والاضطراب من جراء التدمير الكامل لإحدى كبرى الدول فيها.
أمريكا دخلت الحرب بهدف إخراج العراق من الكويت، ثم تحولت أهدافها إلى تغيير النظام في العراق دونما التفكير في إيجاد بديل. وقد يكون من باب الجهل أو التعمد، اعتقدت أمريكا أنه لا سبيل لتغيير النظام في العراق إلا بإنهاء القوة السياسية للسُّنة في منطقة ما بين النهرَيْن برمتها باستثناء الإقليم الكردي. لذا سلَّم الأمريكان للقوة الشيعية الوحيدة المنظمة في العراق «حزب الدعوة» مقاليد السلطة في العراق رغم معرفتهم بولائه المطلق لإيران. فقد كان الأمريكان يرون في إيران دولة صديقة حليفة ضد البعث. ولا نعرف إن كان ذلك متعمدًا أم نتيجة لحسابات خاطئة.. ولكن منذ ذلك الوقت بدأت حسابات إيران الخاطئة التي نرى تداعياتها اليوم.
قدَّمت أمريكا العراق لإيران هدية على طبق من ذهب؛ ربما لأنها كانت تخشى انتقامًا سُنيًّا من تداعيات حرب العراق الثانية عليها بسبب دماره الهائل؛ فأغرى ذلك إيران على التخطيط لإحكام قبضتها على الدول العربية المجاورة كافة في سعي لإعادة حلم الإمبراطورية الفارسية من جديد بغطاء مذهبي مستغلة تدني وعي قطاعات كبيرة من المواطنين الشيعة وبعض المنتفعين من السُّنة للتمدد. وربما أدركت أمريكا أن إيران كانت أكثر استعدادًا لإكمال الجانب القذر، غير المقبول دوليًّا، من استئصال بقية السُّنة؛ فأخرجت إيران أعدادًا كبيرةً من السجناء السُّنة في العراق بالتخطيط مع عميلها الأكبر نوري المالكي، وسلَّحتهم بالأسلحة كافة؛ ليكونوا نواة دولة إسلامية عبر الحدود في سوريا المضطربة أصلاً. وهدفها - أي إيران - كان دومًا تأسيس هلال شيعي من طهران للبنان، يُحكم السيطرة على المنطقة، ويحاصر الدول السُّنية من الشمال. وتم تسليح الحوثي في اليمن؛ ليكمل الطوق في الجنوب.
إيران بحسابات خاطئة أرادت أن تلعب دور المستعمر في جوارها العربي دون أن تتوافر لها أدوات الاستعمار التقليدية: المال والقوة العسكرية، التي كانت متوافرة للدول الكبرى؛ فاعتمدت استراتيجية ذات بُعدين: الأول: تأجيج البُعد الطائفي، واجترار العداوات الطائفية التاريخية في أبشع صورها الأيديولوجية. والثاني: مصادرة سيادة الدول التي وقعت تحت سيطرتها؛ وذلك بمصادرة حقها الطبيعي في احتكار استخدام القوة داخليًّا بمنعها من تأسيس جيوش حقيقية، تحميها خارجيًّا، وتأسيس جيوش خفية في هذه الدول على شكل مليشيات طائفية موالية لها، تكون لها السيادة الحقيقية على الحكومات الصورية في هذا الدول: الحشد الشعبي، قوات بدر، حزب الله، أنصار الله (الحوثي) وجيش المقدس. حجة إيران الصورية في ذلك المقاومة، واستعادة القدس. وهدفها الحقيقي حال تثبيت أقدامها هو الانقضاض على دول عربية أخرى بتبريرات مشابهة. وكان المخطط أن يكون الدور فيما بعد على البحرين والكويت بحكم وجود أقليات شيعية فيها، ثم ربما الإمارات، وبعدها السعودية ومكة (الهدف الحقيقي لكل مناورات إيران في المنطقة).
حسابات إيران الخاطئة اصطدمت بالوعي العربي الشيعي لأهدافها الحقيقية بالهيمنة الفارسية على دولهم، وبوعي الشعب الإيراني ذاته بخطورة مغامرات الملالي بمستقبل إيران، وتحويلها لدولة عسكرية بوليسية فاشلة على النمط السوفييتي.
والحقيقة إن جميع الظروف الموضوعية كانت تشير إلى حسابات إيران الخاطئة التي انعكست فيما نشاهده اليوم من انتفاضات في دول نفوذها، وفي إيران ذاتها.