عبدالعزيز السماري
سقطت الكلمة، وانتهى دور المثقف، بعد ثورات التواصل؛ فالتغريدات الحالية لا تعد طرحًا ثقافيًّا، ولكن مواقف تقذف في كل اتجاه، والحقيقة لم تعد تحتاج إلى مجلدات، ولكن إلى أرقام؛ فالمال أصبح سيد الموقف..
نمرُّ الآن في عصر ما بعد الكتاب، وما بعد المثقف، وما بعد المقال؛ فالأمر تجاوز الطرح العقلاني، واستعمال الكلمات للتعبير عن موقف؛ فقد يغني مقطع مصور، أو أحيانًا قد تكفي صورة عن ألف معنى موجود في كتاب..
كانت أصابع الاتهام في يوم ما في دول العسكرتاريا موجهة ضد المثقفين، وأنهم مصدر الخوف على النظام؛ وأدى ذلك إلى هروب جماعي للمثقفين والكتّاب، وخلو الساحة تمامًا من الكلمة، لكن ذلك لم يمنع من التدهور الطبيعي للدولة بسبب انهيار اقتصاد الدولة، وزيادة مساحة الاستبداد.
كان الفارق بين هؤلاء ودول الخليج الاقتصاد ومساحة الرأي؛ ولذلك استقرت منطقة الخليج العربي، واجتاحت الفوضى والفساد دول الشمال، وكانت النتيجة دخول المستعمر، وانقلاب ميادينها إلى مساحات للمظاهرات والثورات، ومن ثم إلى حروب أهلية.
في هذا العصر وسائل الاتصال أسقطت الكلمة؛ فلم يعد لها سياق تُكتب من خلاله، وتحولت إلى ميادين لا حدود لها للصراع بين الجماهير ومختلف السلطات. أسلحة هذا الصراع تعابير مختزلة، يتناقلها المغردون فيما بينهم، ويتم تحوير معانيها من شخص إلى آخر.
كل معاني الأشياء تغيّرت؛ فما يحدث في هذه الساحات ينبئ بمتغيرات كبرى؛ فمساحات التحرر، والتطرف الديني، والتعصب الرياضي، تضاعفت آلاف المرات منذ أيام الكتابة الكلاسيكية التي تعبِّر عن موقف ما في كلمات أقل توحشًا، وأكثر لباقة من غيرها..
ما يحدث الآن من انسحاب للكتّاب وأصحاب الأقلام، وخروجهم من الساحة، قد يكون نتيجة لهذا الوضع؛ فالتعبير لم يعد حكرًا على ندرة تعبِّر عن رأي، ولكن أصبح حقًّا مشاعًا للجميع؛ هو ما جعل الوضع كالمعركة في الضباب، لا تستطيع تمييز مَن يقاتل معك ومَن يقاتل ضدك.
قد تكون هناك أسباب أخرى؛ فالكاتب في الوقت الحاضر لا يستطيع منافسة التغريدة القصيرة والقادمة من المجهول، وأيضًا لم يعد له تأثير؛ فهو محدود الكلمات والمساحات، ولا يزال يخضع للطرح العقلاني والسياق المتواصل، وربما انتهى دورهما.
حاول بعض أصحاب الأقلام مجاراة الوضع الجديد، لكنهم احترقوا؛ لأنه عالم متغيِّر؛ فالحقيقة أو الموقف يتغير بشكل متسارع؛ ولذلك لا يستطيع كاتب مخضرم أن يتقلب كل يوم من وضع إلى آخر في فترات زمنية قصيرة.
في نهاية الأمر هو مخاض طويل، وقد لا ندرك إلى أين سينتهي، لكنه معلق بالمال بشكل مباشر، وليس بالموقف أو الكلمة؛ فالواقع الجديد لا يحتاج إلى وسيط من المثقفين أو المحدثين، ولكن يبحث عن مال يكفي متعته، ويلبي رغباته.. وما كتبته أعلاه قد يكون عزاء للكلمات، وللكاتب الكلاسيكي، وقد يكون إعلان نهاية مرحلة، وبدء أخرى..