سليمان الجاسر الحربش
حاورني شاب يعد رسالة الدكتوراه فيما يعرف في علم الإدارة العليا «بالقيادة الإستراتيجية» كان سؤاله: من خلال ما تراكم عندك من تجارب أثناء وجودك على رأس منظمة دولية طيلة خمسة عشر عاماً، ومن واقع ما شهدته من برامج الإصلاح الإداري في الدول النامية التي زرتها وفاوضتها في ثلاث قارات: ما هي الملاحظات والنصائح التي تقدمها لمن يشق طريقة إلى مركز القيادة الإدارية؟
أحلته في البداية إلى بعض المراجع التي توضح الفرق بين الإدارة والقيادة وأهمية كل منهما، وقلت له إنني ممن يميلون إلى أن سمات القيادة تولد في الغالب مع الشخص، وتستمد جذورها بدرجة كبيرة من التربية الأسرية وعلاقة الإنسان بوالديه، لكنها -أيضاً- قابلة للاكتساب، ومهما كان الأمر إليك بعضاً مما استخلصته من تجربتي:
1. بادي ذي بدء، ضع ثقتك بالذين ورثتهم عن سلفك (وهم صالحون ما لم يكن عندك ما يثبت العكس) هؤلاء درسوا وتدربوا وضحوا وتحملوا مسؤوليات أسرية، واعلم أن من سبقك في المكان أدرى بشعابه منك، وتأكد أن المهارة الحقيقية أن تستقطب هؤلاء وتجعلهم في صفك لتنفيذ رؤيتك التي بدونها يصبح الحديث عن القيادة من لغو الحديث، وإياك أن تحاول للوهلة الأولى إصلاح أمر غير ذي عوج. قاطعني مستغرباً متسائلاً باللغة الإنجليزية عما أقصد! فأجبته باللغة التي يفهمها أكثر (وهي لغة رسالته) Do not try to fix what is not broken لأن هذا قد يؤدي بك إلى متاهات أنت في غنى عنها.
2. قلت للشاب إن الفكرة التي وردت في الفقرة السابقة مستمدة من أدبيات الإدارة، وقد تجدها في مجلة هارفرد بزنس رفيو الشهرية، لكني أحيلك إلى تجربة محلية هي جزء من تاريخ هذه الدولة التي نحتفل بعيد ميلادها التاسع والثمانين: فقد روى فضيلة الشيخ محمد بن جبير -رحمه الله- وهو ممن عرف بعلمه وأمانته وفضله، لطالب مثلك يعد رسالة عن تاريخ الإدارة في المملكة العربية السعودية أن «الملك عبدالعزيز يتميز بصفة قلما توجد بالعالم وهي ميزة استصلاح الرجال»، والعبارة بين الأقواس اقتباس حرفي من كلام الشيخ بن جبير، والمقصود به أن من كانوا يحاربون في صف مناوئي الملك المؤسس صاروا من أكثر الناس إخلاصاً له، وجدير بنا أن نتذكر هذه السمة الفريدة للملك المؤسس كلما احتفلنا بعيدنا الوطني، وقد ألهمتني هذه الملاحظة وجرّبتها في ثلاثة (من جنسيات غير سعودية) كانوا يمثلون رأس الحربة ورثتهم عن سلفي، فكانت النتيجة أنهم حملوا معي مسئولية التغيير الذي أحدثناه في منظمة أخذت فيما بعد مكانها اللائق بين مؤسسات التنمية، وهي (لفائدة من لا يعلم) صندوق أوبك للتنمية الدولية «أوفيد» في فيينا. وبكلمة واحدة حذار أن يكون التغيير في الأفراد هدفاً في حد ذاته.
3. حاول أن تتخلص من أسلوب العمل الفردي، جرّب عمل الفريق واترك غيرك يشعر بأن نجاح المؤسسة يعود في جزء منه إلى جهده وإخلاصه، وإن كان في الفريق من لا يؤيد رؤيتك، حاوره إن كان لديه رؤى قد تفتح لك آفاقاً جديدة، وقد مررت بهذه التجربة أكثر من مرة.
4. حاول أن تقود واترك الإدارة لغيرك، وإن كنت لا تعرف الفرق فلا بأس أن تستعين بمن هو أدرى منك، ولا ضير من اللجوء إلى بيوت الخبرة بدون إسراف، شريطة أن يظل الزمام بيدك، فالمهم أن تعرف الفرق بين القائد والمدير، التي من أهمها أن القائد هاجسه الأكبر الأفراد وبناء الطاقات، بينما يتولى المدير إدارة المرفق وتسيير أموره، القائد يركز على المبادئ أكثر من القواعد المكتوبة، وبقدر ما يستطيع القائد تمرير رؤيته لمن حوله وإقناعهم بها بقدر ما يخلق جيلاً من القادة كل فيما يخصه.
5. حاول أن تزرع في مؤسستك ثقافة النصيحة المحضة، لا توحي لمن يعملون تحت إمرتك أنك تبحث عمن يقدم لك ما يساورك، قد يرى غيرك غير ما ترى، ولتكن عندك الشجاعة أن تعرف بأن من دونك قد يفكر بطريقة أفضل منك، وطبّق هذا المبدأ على نفسك، لا تحاول أن تقدم لرئيسك -مهما كانت درجته- ما تظن أنه يريد سماعه، قل رأيك كما يمليه عليه، وصف وظيفتك، وانفذ ما استطعت من الصندوق، فالتاريخ يصنعه أولئك الذين يخرجون عن المألوف.
6. لقد عملت عن كثب مع بعض الشركات الكبرى مثل أرامكو، شيفرون وشلامبرجيه ورأيت كيف يبحثون عن الطاقات الكامنة في فئة ما يعرف بالمهنيين الشباب Young professionals، وكيف يزرعون تلك الطاقات وينمونها لتصبح الرصيد الحقيقي لتلك الشركات، تلك هي المتعة الحقيقية للقائد الناجح الذي يحمل في يده وقلبه أجندة إصلاح.
وأخيراً.. إياك أن تصغي لنصيحة من وقعوا في شباك مكيافللي في قوله إن من الأفضل للقائد أن يكون محترماً مهيب الجانب بدلاً من أن يكون محبوباً، فالقائد الناجح يجمع بين كل الصفات الجميلة، تلك التي وجدت طريقها في علم الإدارة الحديث تحت ما يعرف بظاهرة الذكاء العاطفي Emotional Intelligence وهي أفكار أودعت نصائح مكيافللي ومن شاكله خزانة التاريخ. وفقك الله.